تنشط في الآونة الأخيرة الدعوة إلى الحوار الديني وخاصة مع العالم الغربي، وبدون شك فإن ذلك النشاط مرتبط بزيادة الوعي بأهمية الحوار وقيمته، وأن تجاهله أو التعامل مع مقتضياته بخفة وعدم تقدير للأهمية من شأنه أن يحرم العالم الإسلامي من فرص كبيرة لنقل قضاياهم العادلة إلى العالم، وكذلك فتح العقول والقلوب لتفهم معاني الحنيفية السمحة التي جاء بها الإسلام، والدعوة إلى الحوار أصيلة في جذر الثقافة الإسلامية ولا يمكن أن يزايد أحد علينا نحن العرب والمسلمين في مسألة الحوار والجدل الأحسن، فهذا مطلب شرعي وأساس قرآني وهدي نبوي، حتى مع أعتى المشركين وأشدهم كراهية للإسلام، وقد فعلها النبي الكريم مع الملأ من قريش حتى أن عتبة بن ربيعة عندما أهانه بعرضه عليه بعض «الترضية» بالمال أو الوجاهة على أن يترك دعوته أطرق النبي الكريم طويلا يستمع إليه ويتيح له الفرصة كاملة حتى فرغ السفيه من كلامه فقال له النبي الكريم صلى الله عليه وسلم: أو قد فرغت يا أبا الوليد؟ ثم قرأ عليه الآيات من أول فصلت حتى أنه لم يقاطعه رغم مرارة العرض وإهانته لنبي مرسل، إلا أنه تركه حتى «فرغ» ثم أجابه. الحوار إذن مطلوب وخاصة بعد أن تبين أن هناك سوء فهم كبير في الأوساط الغربية للإسلام ودعوته ورسالته وعلاقاته الإنسانية والدينية مع الآخرين بفعل حملات التشويه والكراهية التي تبثها أجهزة إعلام لها مصالحها وعقائدها المطمورة والعلنية والحضور الصهيوني الخطير فيها لا يخفى على إنسان، الحوار إذن مطلوب إلا أن الجانب الآخر الموازي للحوار والذي ينبغي أن لا يغيب عن وعي المهتمين بالشأن «الديني» الإسلامي بشكل خاص هو أهمية حضور معنى «الدعوة» في النشاط الإسلامي الموجه إلى الغرب أو الشرق سواء، وهذا ما نعتب فيه بعض التقصير أو كثيره على المؤسسات الأهلية، حيث لوحظ انشغال تلك المؤسسات المفرط في فكرة «الحوار» مع تجاهل محور «الدعوة»، والحقيقة أن بين المعنيين تداخل غير أن هناك خصوصيات لا نخطئها، لأن الحوار فعل إنساني عام يشمل الحالة الدينية والفكرية والسياسية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، بينما «الدعوة» تعني نشر دين الحق تحديدا لدى الآخرين أيا كانت ديانتهم أو عرقهم أو هويتهم بوصف الإسلام الدين الخاتم للإنسانية جمعاء، ولعل هذا الفارق هو ما نلاحظه بوضوح عندما نتحدث عن «الآخر» غير الغربي في أفريقيا وآسيا مثلا، فالمعنى الحاضر دائما هو «الدعوة»، ونادرا ما تطرح مصطلح «الحوار» وربما كان لذلك «التمييز» بعض الوجاهة أو المبررات من حيث كثرت تقاطعات المصالح السياسية والاقتصادية وغيرها مع العالم الغربي، الأمر الذي يجعل من «الحوار» بمعناه الشامل ضرورة أو حاجة حقيقية، بينما تقل هذه التقاطعات مع الدول الأفريقية أو الآسيوية وأيا ما كان الأمر أو المبرر، إلا أنه لا ينبغي أن نزيح المطلب الشرعي والرسالي للأمة المسلمة وهو أمانة الدعوة إلى دين الحق، وأخشى أن يكون قد تسلل إلى البعض الإحساس بأن الحديث عن الدعوة إلى الإسلام أصبح جارحا لا يليق أن نتحدث به في خطابنا إلى الغرب، وإنما نتحدث به عن المساكين في بوركينا فاسو وجامبيا وتشاد، وعلى صعيد آخر فإن التكامل بين الحوار والدعوة مطلوب، لأن فكرة «الحوار» هي بالأساس فكرة نخبوية وأكثر التصاقا بعلاقات المؤسسات منها بالإنسان العادي، فالحديث عن الحوار يكون بين أكاديميين أو إعلاميين أو مفكرين أفرادا أو مؤسسات، وهذا يعني بعيد نسبيا عن «المجتمع» ذاته والإنسان العادي، والحقيقة أن الحوار ربما يثمر في تحييد بعض العداء أو تقليل بعض التحيز أو إيجاد قدر من التفهم لسلوكيات الآخرين، ولكنه عمليا ليس سبيلا إلى الدعوة بمفهومها الحقيقي، إن الإنسان العادي هو أقرب إلى الخير وبشاشة الروح من «الخبراء المتعجرفين» في المؤسسات الأكاديمية والإعلامية، ومعظمهم يتحرك وفق حسابات ومصالح معقدة بعضها له طابع شخصي، أما الإنسان البسيط العادي غير المثقل بكل هذه الحسابات فهو الأقرب إلى فهم خطاب إسلامي رشيد ومتوازن ومتفهم لظروفه الاجتماعية وخلفياته التاريخية والثقافية، نحن في حاجة إلى مخاطبة «المجتمع» والناس وليس فقط النخبة أو «الملأ»، وعلى مؤسساتنا الدينية وخاصة الرسمية أن ترفع عن نفسها مشاعر «الحرج» وهي تتحدث عن رسالتنا الإسلامية في المجتمع الغربي، الدعوة إلى الله عمل شريف ورسالة قدسية وفريضة إلهية، والحوار جزء منها، ولكنها هي الأساس والأصل الجامع للخير.