كما أن طائرة الجامبو الفرنسية التي حطت على مطار طهران, لم تكن رحلة عادية كسائر الرحلات في العالم, إذ نقلت إيران من زمان إلى زمان آخر, وقولبت مجتمعا بأسره! حيث إنها كانت تقل على متنها آية الله الخميني من منفاه في فرنسا بعد غياب خمسة عشرعاما, ليدشن أهم الثورات في تاريخ العالم. وفي بلورة لمجتمع بأسره, الذي تهافت بمئات الآلاف على طول خط المطار لاستقباله, بانتظار "الهدية" التي أعلن الخميني إحضارها لمستقبليه وللإيرانيين, وسمّاها ب "هدية الله"، وهي "نظريه ولاية الفقيه"! هذه الهدية تعود بي للذاكرة إلى الوراء حينما كنت صغيرة في مدينتي الدمام, عندما زارنا زميل لوالدي (شيعي) مصطحباً بالهدايا لي ولأخواتي والتي كانت عبارة عن قمصان "تي شيرتات" بها صورة الإمام الخميني, وبشغف طفولي ارتديت القميص وذهبت مسرعة إلى بنت الجيران لأريها قميصي, كانت جدتها جالسة في الفناء, عندما رأتني وللوهلة الأولى أخذت تصرخ وتتحدث بلهجة قوية, لم أكن أعي منها شيئاً لأنها كانت لا تتحدث اللغة العربية.. كانت من عرب إيران, الذين عادوا للجزيرة العربية, ممن يسمون عندنا ب "الهولة". بقى ذلك الموقف قابعا فى ذاكرتي سنين طويلة, وشكل حاجزاً نفسياً كان يكبر بمرور الأيام حائلا أمام الاقتراب من أي ثقافة إيرانية المصدر .. إلا أن هذا الحاجز بدأ يتهاوى, في مطلع شغفي بالسير الذاتية, حيث استطاعت بضع نسوة إيرانيات نيل إعجابي بطموحهن, وإنسانيتهن, وشغفهن بالوصول إلى النجاح, من خلال ما سطرته أناملهن في سيرتهن الذاتية المليئة بالتحدي, وإرادتهن التي لا تلين. ناهيد رشلان في كتابها "بنات إيران" نثرت وجعها, وعودتها إلى بلدها مجدداً لتواجه ماضيها، وتقيم ما يخبئه المستقبل لمنسحقات القلوب. شيرين عبادي الحائزة جائزة نوبل, المحامية التي استفتحت سيرتها "إيران تستيقظ .. مذكرات الثورة والأمل" بخبر إطلاعها على محضر محادثة بين وزير في الحكومة وأحد عناصر فرق الموت, وإن هذا الأخير عندما ذهب إلى الوزير طالبا الإذن باغتيالها وافق على شرط ألا يكون في شهر رمضان, بل في أي وقت يليه!! أما الكتاب الثالث, فلا يقل عن سابقيه صراحة فهو لابنة محافظ طهران في عهد الشاه، آذر نفيسي «أن تقرأ لوليتا في طهران» تشبِّه ما قاساه اليهود بما يعانيه الإيرانيون في ظل الثورة الإسلامية من إعدامات سرية. بالهولوكوست!! وتقول إنّ ضحايا تلك الإعدامات ذاقوا الموت مرّتين: مرة بموتهم الفعلي، ومرة بالتعتيم وإخفاء هويات المعدومين! ثم هي تتحدي الظروف الصعبة بافتتاح صالون أدبي في بيتها لمناقشة الأدب الغربي الذي مُنع وقتها من التدريس بالجامعات. فمتى تتخطى كاتباتنا الخليجيات حواجز البوح, بجرأة الكتابة عن سيرتهن الذاتية, ويلبسن الأخريات عباءاتهن, كما ألبسونا إياها؟ (فوزية منيع الخليوي)