لا يمكن أنْ تُرى المواطنة عملاً إيجابياً مُعاشاً في الواقع ما لم تكن قبل ذلك شعوراً داخلياً ينبُت داخل النفس، ويتفيّأ حنايا القلوب؛ ولكن من أين لنا أن نستنبت هذا الشعور في قلوب شباب الوطن؟! فالشعور بالمواطنة لا يُتصور أن يَنبُتَ من تلقاء نفسه، كما لا يمكن أن تغرس المواطنة في قلوب الصغار بأسلوب التلقين، والمواطنةُ أعمق من أن تكون مجرد أناشيد محفوظةٍ نتغنّى بها، أو ثناءً ومديحاً بالنثر والشعر نتملق بها، إنها إحساس بالانتماء وشعورٌ بالمسؤولية وعمل على حفظ المكتسبات والمقدرات. الوطنية تتطلَّب قناعةً بالمنتمى إليه وحبَّاً له؛ لكن الرغبة والقناعة لا يتولَّدان من التلقين ووصاية الأوامر. إن الإحساس بالمواطنة يتغذّى من صور نابضةٍ بالحياة، وواقعٍ ماثل محسوس، وليس من نظريات مجردة، وخطابات جوفاء باهتة! فالقدوة الصالحة التي يتمثّل فيها الأنموذج الصادق للمواطنة هي أكثرُ ما يحفِّز المجتمع كله وليس صغاره فحسب للمواطنة الحقة، فالناس لا يكادون ينساقون لفضيلةٍ إلا بعد أن يكون لهم فيها مثالٌ سابقٌ يُحتذى. للمواطنة صورها الشريفة الصادقة التي لا تختلط بصورها الزائفة الكاذبة إلا في عين عباد النفعية الذين يمارسون التزييف والنفاق. فالنزيه الورِع الذي لم تتدنس يدُه بالرشوة والاختلاس هو أنموذج صادقٌ أتم الصدق للمواطنة الصحيحة. والمحتسب الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بالحكمة والرفق ويدافع متّبعي الشهواتِ هو أيضاً أنموذج صادق للمواطنة. والمسؤول الذي وظَّف كفاءاته ومهاراتِه في تيسير حاجات الناس والتنمية والتطوير هو أنموذج صادق للمواطنة... إلخ. النماذج الصادقة للمواطنة كثيرة تتعدد بتعدد الأعمال الجليلة التي تدعم وحدة الوطن وتحفظ فضائلَه وثرواته ومقدراته. حين يرى الناس أنفسهم في سواسية في استحقاق الحقوق وأداء الواجب, فسوف يتعافون كثيراً مما يقوض المواطنة الحقة ويعوقها. وهنا ملحظ ينبغي أن يُبرز، وهو أن الحقوق ثابتة بالولادة لكل مواطن، فلا يحتاج إلى أن يستجديها، ويستعطف لأخذها، وحين ينالها فلا يجوز أن تُحسب عليه هبةً تمن عليه، ولا يمكن أن يسارع المواطن بأداء ما عليه من الواجب لوطنه إذا كان لا يجني من أداء الواجب استيفاءَ الحق الذي له؛ فحتى تأخذ لا بد أن تعطي، وحتى ترضى لا بد أن تُرضي، فنجاح العلاقة مبنيٌ على تبادل المنافع. كل الأساليب الخطابية التلقينية التي تستحث المواطنين على المواطنة والإخلاص للوطن, لن تجدي جدواها المرجوَّة ما دام المواطنُ يشعر أن إخلاصه ومواطنته إنما تحفظ حقوق غيره ولا تضمن له حقوقه. فإذا كانت حقوقه مُضيَّعاً بعضها، أو كلها؛ سواء أخلص أم لم يخلص، فما الذي سيدعوه إلى الإخلاص وهو يعلم أن جهده ضائع لا يعود عليه بنفع؟!