قبلة.. كان اسمها مثيراً للدهشة والإعجاب. ونحن صغار كنا نضحك حينما تأتي من المدرسة وتحكي لنا كيف أن مدرساتها يقرأن اسمها بضم القاف، ويتساءلن كيف لمجتمع محافظ أن يطلق على بناته اسماً بهذه الدرجة من الرومانسية والعذوبة. والحقيقة كانت هي أنها اكتسبت هذا الاسم من مكان ولادتها في منطقة الجوف، حيث الاسم شائع ومعروف، لكنه ينطق بفتح القاف وهو مشتق من القبول، فيقال إن فلانة (أو فلان) تكتسي بالملح والقبلة، أي الملاحة والقبول. كان اسمها، حتى بفتح القاف يمتلئ بدلالات الرقة والجمال، وهي كانت كذلك كأنها تثبت أن الأسماء تشكل هوياتنا ففي شخصيتها ما يثبت هذه النظرية. هي شقيقتي التي تكبرني بعام واحد فقط، وقد نشأت ومعنى “الأخت الحنون” يرتبط في وعيي بها، وفيما بعد وفاة والدتنا اكتسبت في وعيي أيضاً صفة “الأم الحنون”، ليس لأولادها فقط وإنما لي ولإخوتي وأخواتي أيضاً. في طفولتها كانت عنواناً للرقة والعذوبة، لا تغضب أحداً، وإن حدث وأن أغضبها أحد انهمرت دموعها ولجأت إلى ركن تبني فيه عالمها الخاص، لذا تعلمنا ألا نغضبها، فهي بصمتها وحزنها ودموعها كانت تهزم شقاوتنا. شاهدتها في مرات عديدة تتحدث إلى أشخاص تراهم هي فقط، تلوح بيديها كأنما هي تعاتبهم أو تعنفهم، وبالمتابعة الصامتة عرفت أنها تفرغ شحنات الزعل على أولئك الذين أغضبوها، ثم تعود إليهم رقيقة عذبة وكأنما شيئاً لم يكن، فتعلمت احترام صمتها. الصغيرة كبرت وأصبحت شابة حالمة أيضاً تستمع إلى نجاة الصغيرة وتقرأ روايات إحسان عبدالقدوس ويوسف السباعي وتشاهد أفلام عبدالحليم حافظ، كان أكثر ما يستوقف الناظر إليها عيناها الواسعتان الغارقتان في الحلم وسمرتها الآسرة وجسدها الضئيل الناحل وجديلتها الطويلة، كانت فتاة تملأ العين رغم قصرها الواضح، والأشياء الثمينة دائماً تأتي في عبوات صغيرة. ومن الذي قال أن الحالمين لا ينجزون؟ فبمجرد ما أصبحت الشابة أماً تحولت أحلامها إلى طاقة هائلة وجهتها إلى بنتها وأبنائها الثلاثة، وكأنما أرادت أن تحقق أحلامها بهم. فلأنها لم تكمل تعليمها كما أرادت، فقد حرصت على أن يحصلوا على أفضل تعليم وفي أفضل الجامعات، وأعرف يقيناً أنها حرمت نفسها من كثير من احتياجاتها المادية والعاطفية من أجل ألا ينقص عليهم شيء مما لدى أقرانهم، ونجحت في ذلك أيما نجاح. قبلة الأم امتدت أمومتها لتشمل أبنائنا وأبناء أبنائنا، فقد كانت أكثرنا حرصاً على الاجتماع في غدائنا الأسبوعي، بل أنها كانت تفاجئنا بتوجيه الدعوة لنا إلى منزلها خارج السياق الذي التزمنا به، وكنا نستجيب لها فقط لنرى الفرحة في عينيها باجتماعنا حولها. في أيامها الأخيرة وبعد أن أنهكها المرض وعبث في جسدها وأعادها إلى حالة النحول، كما عبث في قدرتها على التركيز في كثير من الأحيان، لم تفقد قدرتها على تذكر أحداث نسيناها من زمن الطفولة، بل أنها كانت مرجعنا في التثبت من كثير من التفاصيل والحكايات. في آخر جلسة لي معها على انفراد، أردت أن أعتذر عن تأخري بزيارتها فأسمعتني عتاباً قاسياً لم أتعوده منها، ثم اكتشفت أنها لم تكن تحدثني بل أنها عادت إلى حواراتها الداخلية التي تقولها بصوت عال أحياناً. وعرفت أنني فقدتها حينما رأيت أن جديلتها الطويلة سقطت، وأنها لم تعد تهتم، أو تقوى، على العناية بصباغة شعرها. رحمك الله يا أم سلطان، رحلت عنا لكن أحلامك لازالت بيننا تزدهر وتنمو.