على الرغم من وجود السينما والتلفزيون والإنترنت إلا أن الكتاب يبقى جزءاً من حياتنا اليومة واهتماماتنا الفكرية والأدبية. فمازلنا نبحث عن كتاب الشعر الذي يهبنا دفقة شعورية تعيد تعبئة حواسنا بالجمال. ولأننا لم ولا ننفطم عن الحكايات نتعلق بالرواية التي تسرد شيئاً من واقعنا وخيباتنا وطموحاتنا المؤجلة، ولنكون حديثين وعصريين كما ينبغي نطارد الكتاب السياسي الفكري الذي يفسر لنا ما يجري في لحظتنا الراهنة، ويسعفنا للتجادل مع الآخرين. نبحث عن الكتاب لأننا مازلنا نقيم في حي الطبقة الوسطى، حيث يُعتبر الكتاب بمثابة الزاد لهذه الطبقة. إن انسحاب دور النشر الكبرى من السوق لحساب الدور التجارية الحديثة لم يؤثر على منتجات الثقافة وحسب، بل أضر بنا كقراء، لأن دور النشر العربية صارت هي الأخرى تلهث وراء الكتاب الشعبي التجاري الجماهيري. فهم الأكثر استهلاكاً للكتاب مقارنة بالعمال والفقراء ورجال الأعمال، إلا أن المعنيين بصناعة الكتاب عموماً لم يعودوا مهجوسين بتحقيق فكرة المتعة والتغذية الفكرية، بقدر اتجاه طموحاتهم إلى الطرح التجاري، لذلك يصعب علينا الاهتداء إلى الكتاب الذي يشبه الغذاء والدواء وسط ذلك الركام الهائل من الكتب التي توصف بأنها الأكثر مبيعاً بموجب قيم السوق الجديدة. هكذا بتنا نعيش حالة من الطراد الدائم وراء الكتاب الجيد، الكتاب الذي يخبرنا عما كان، وما يحدث لنا الآن، وما يمكن أن تكون عليه حياتنا في المستقبل. نبحث عن الكتاب الذي يمنحنا المتعة والفكرة، إلا أن خياراتنا تتقلص كلما طالعنا ذلك الكم من الكتب على قوائم النشر، التي تهلّل للكتب الأكثر شعبية من منظورها التسويقي، وحسب مبتغاها التجاري، حيث تُغرق الأسواق بما لا علاقة له بمفهوم الكتاب. الكتاب جزء لا يتجزأ من وعينا بالحياة وإحساسنا بذواتنا، وإذا كان الطعام هو الذي يربي فينا العضلات الفسيولوجية، فإن الكتاب هو الذي ينمي عندنا العضلات الفكرية والشعورية. الأمر الذي يعني ويحتّم أن نفكر كثيراً في اختيار ما نقرأ لنستمتع ونتعلم في آن. وعندما طرحت دار بنجوين شعارها الشهير (القراءة الجيدة للملايين) إنما كانت تقارب هذا المعنى، وتعمل من أجله بوعي استراتيجي كان حاضراً في منشوراتها. لكنها لم تصمد طويلاً، حيث يشهد التاريخ على خسران بعض مديري دور النشر لوظائفهم نتيجة تمسكهم بمبادئ النشر الأصيلة وعنادهم الإداري، أي رفضهم العمل ضد ما بنوه في صناعة النشر. ولأن الربحية هي العنوان الأبرز لدور النشر العالمية، استجاب معظمها للمنطق الجديد، الذي تم بموجبه التنازل عن اشتراطاتها السابقة بما تسميه المستويات العليا للنشر. لأنها لا تعمل بمفردها، بل ضمن منظومة شركات احتكارية بمقدورها اليوم أن تمنع نشر الكتب الجيدة والمفيدة لئلا تتعرض مصالحها للخطر، بل يمكن أن تضحي بدار النشر لصالح الشركة الأم، كما حدث لدار راندوم هاوس مثلاً، لذلك تضاءل وجود الكتب التي توصف بالصعبة العميقة لصالح الكتب الترفيهية، التي تدر الأرباح، وحُرمنا بالتالي كقراء من الكتاب الذي يعلمنا شيئاً عنا، وإن كانت معظم دور النشر تحاول ألا تخلو قائمتها من الكتب المميزة، وتجاهد لكي لا تستسلم لمنطق وقيم السوق التجاري. ولا شك في أن ما يحدث هناك في كواليس دور النشر العالمية يؤثر علينا كمستهلكين للكتاب، حيث كانت دور النشر تباهي بما تنشره من كتب النقد الفني والأدبي، وبما تروج له من كتب الفلسفة والفكر والترجمات. أما اليوم فهي رهينة للسوق. هذا السوق الذي يسلبنا جزءاً من حقنا في القراءة الجيدة، ويمنعنا بالتالي من الاستمتاع بحياتنا. أما من يبحث عن الكتب الجادة الهادفة الناقدة فلن يجدها إلا ضمن إصدارات المؤسسات اللاربحية، والمعاهد العلمية الممولة من الدول والهيئات. إن انسحاب دور النشر الكبرى من السوق لحساب الدور التجارية الحديثة لم يؤثر على منتجات الثقافة وحسب، بل أضر بنا كقراء، لأن دور النشر العربية صارت هي الأخرى تلهث وراء الكتاب الشعبي التجاري الجماهيري. أي الطبق الساخن الشهي، بمعايير السوق أيضاً، فيما تغيب الكتب التي تسلط الضوء على أهم القضايا الرئيسة في حياتنا، إذ يبدو أن تغيرات عميقة حدثت في جوهر العلاقة بين الإنسان والكتاب، ولابد من التواؤم معها. [email protected]