يدور جدال كثير حول مكانة الشعر في الثقافة العربية في الوقت الراهن. ويستند النقاش إلى بعض المظاهر التي تتصل بالنشر والتوزيع أكثر من اتصالها بمنظور سوسيولوجي نفسي معرفي أكثر اتساعاً وشمولاً. ولهذا السبب، فإن نتيجة الجدال الدائر تبدو مغايرة للحقيقة، فيدور الحديث عن تحلل مكانة الشعر في خريطة الأنواع الأدبية العربية. فهل هذا صحيح من الناحية العملية؟ إن علاقة العرب بالشعر علاقة مخصوصة. نحن من الأمم المعدودة على الأصابع التي تهتم بالشعر وتحلّه منزلة عليا في حياتها. فما أنتجته هذه الأمة من شعر، على مدار ما يزيد على ألفي عام، قبل الجاهلية وعبرها، وفي العصور الأموية والعباسية والفاطمية والمملوكية وزمن الانحطاط، وفي العصر الحديث، يجعل من العرب أهل شعر في الأساس. انعكس هذا على اللغة وطبيعة تراكيبها، وكثرة المجاز والاستعارات في الكلام اليومي، وغزارة الاستشهاد بالأبيات الشعرية على ما يحدث في حياتنا، إيماناً من العامة والخاصة، المتعلمين وغير المتعلمين، بأن ما قالته العرب من شعر يختزن خلاصة حكمة العيش عبر الدهور. فلندع جانباً الحديث الدائر منذ سنوات عن كون الرواية ديوان العرب المعاصرين، فتلك في الحقيقة إشاعة لا تتأمل انسراب الشعر في حياة العرب على مدار وجودهم في هذا العالم، ومن ضمنهم عرب هذه الأيام، ولا تأخذ في الحسبان طرق حضور الشعر في حياتهم. صحيح أن الرواية أصبحت تكتب بغزارة في السنوات الاخيرة، وتتهافت دور النشر على طباعتها، لأسباب ليس هنا مجال شرحها، لكن تراجع قراءة الشعر، وتململ الناشرين من طباعة المجموعات الشعرية الجديدة، لا يعنيان غياب الشعر وأفوله من حياة الإنسان العربي في الوقت الراهن. قد ينطبق هذا التراجع على ما يكتبه الشعراء العرب الآن، على الأجيال التي اتخذت من قصيدة النثر شكلاً أساسياً لتعبيرها الشعري، لكن ذلك لا يصدق على تداول الشعر العربي ودورته السرية غير المنظورة في أعماق الناس وعلى ألسنتهم وكلامهم اليومي وأغنياتهم التي يلهجون بها، وما يستشهدون به من شعر، الفصيح والعامي، للتعبير عن تطابق ما يقوله الشعر وينطق به واقع الحال. هذا أقرب الى الحقيقة لأننا أمة شفاهية تؤمن بسلطة الكلام المنطوق وتضعه، بصورة لا شعورية ربما، فوق الكلام المكتوب. إنها تحل الصوت منزلة أعلى من الحرف. ولعلنا، لأسباب تتعلق بانتشار الأمية الساحق في الوطن العربي، لم نبلغ بعد زمن تفوق المكتوب على المنطوق. الشعر يحضر في حياتنا في أشكال وصيغ ولغات؛ ليس الشعر هو المطبوع في الدواوين فقط، الذي نعرف أصحابه ونلهج بأسمائهم، بل هو الشعر المكتوب والمغنى والملقى في المهرجانات، الفصيح منه والعامي كذلك. فلنلقِ نظرة على الفضائيات المتخصصة في الشعر الشعبي أو النبطي لنعرف أن الشعر موجود في حياة الناس بصورة لا تخطئها العين. لكن نخبوية الكاتب والمثقف العربيين لا تجعلهما يريان سوى ما يندرج في سياق الفصيح والنخبوي وما يصنف في إطار الثقافة الرفيعة. هذا يدل على ان الرواية لم تصبح ديوان العرب، كما يحلو لنا أن نقول نحن نقاد الرواية والمعجبين بهذا النوع الساحر الأقرب إلى حياتنا أكثر من أي نوع آخر من الأنواع الأدبية. بل إن الشعر ما زال يحتل رأس هرم الأنواع الأدبية لدينا. إنه النوع الأدبي، بأشكاله وصيغه ولغاته المختلفة، الذي يكثف معنى الوجود وحكمة العيش الأزلية، فيه نعثر على أرواحنا اللائبة، وخيباتنا الكثيرة، وانتصاراتنا القليلة، ونلجأ إليه للتعبير عما يمور في داخلنا من عواطف خاصة وعامة.