في عام 1924م، وفي يومٍ واحدٍ من أشدّ الأيام هولاً على مصر، حدثَ حدثان كبيران: إطلاق الرصاص على الزعيم السياسي (سعد زغلول)، ووفاة الأديب الكبير (مصطفى لطفي المنفلوطي)، فكتب أمير الشعراء (أحمد شوقي) قصيدته الرثائية في المنفلوطي وافتتحها بهذه الأبيات: اخترتَ يومَ الهولِ يومَ وداعِ ونعاكَ في عصفِ الرياحِ الناعي هتفَ النُّعاةُ ضحًى، فأوصدَ دونهمْ جرحُ (الرئيس) منافذ الأسماعِ مَنْ مات في فزعِ القيامةِ لم يجدْ قدماً تشيِّع أو حفاوةَ ساعي وكان الأمير (أحمد شوقي) يقصد أنّ الناس كانت مشغولة بقضيَّة إطلاق الرصاص على الزعيم (سعد زغلول)، ولم تلتفت إلى رحيل (المنفلوطي) فقد كان صوتُ ناعيه ضائعا في عصف رياحِ ذلك الهول الذي سبَّبه إطلاق الرصاص على الرئيس (سعد زغلول). لقد قبضت رياحُ الموت على (سليمان العيسى) كما قبضت على آلاف السوريِّين في هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، ولكنَّ شاعرنا الكبير لم ينسَ أن يترك لنا بصماته راسخةً في الذاكرة الشعرية العربية فهو الذي علَّمَنا أنَّ الشعر ما هو إلا ردَّةُ فعلِ الإنسان ضدَّ الموت.. الموتُ هذا الرحيل الجليل الغامض الذي لم يستطع الإنسانُ تفكيكه منذ الكائن الأوَّل حتى عصرنا الراهن. قبل ثلاثة أسابيع، وفي (سوريَّة) حيث الوقت من دم وصليل وعذابات وآلام، وحيث الموت هو المتن في كتاب الحياة وما سواه هوامش عابرة .. هناك انتقل إلى خالقه الشاعر العربي الكبير (سليمان العيسى) الذي طالما غسل مسارحنا العربية بعرق القصائد ودموع الكلمات.. غادرنا هذا الشاعر الكبير في غمرة رياح الموت التي تعصف بسوريَّة وهو يحمل معه (اثنين وتسعين) عاما من الهمّ والقهر والمعاناة، وضاع صوتُ ناعيه في جحيم القذائف ودخان الأسلحة الكيماوية. عاش هذا الشاعر الكبير في عدَّة دول عربية منها العراق واليمن إضافةً إلى وطنه سوريَّة، وكان شعره هو الناطق الرسمي باسم القومية العربية من فرط ما حمل آمالها وطموحاتها في الوحدة، وقد دبَّج في مديحها عشرات الدواوين الشعرية، ولكنَّه انكسر مع انكسار هذه الأيدولوجيا الحالمة بعد نكسة (1967م)، إلا أنَّ شعره لم ينكسر فقد تصوَّف للطفولة بوصفها القاعدة التي تنتصب عليها حقيقة المستقبل العربي، كما كان يظنُّ. ابتدأ بصياغة الأناشيد التي تحوَّلت إلى ما يشبه أراجيحَ للأطفال الذين طالما بحثوا عن أفراحهم في دواوينه اللاحقة، فهو الشاعر الذي أعاد اللغة إلى طفولتها وأنوثتها قبل أن ينتقل إلى عالم من الندى والعطور تظلِّله فيه أزهار الحب والخير والجمال. لقد قبضت رياحُ الموت على (سليمان العيسى) كما قبضت على آلاف السوريِّين في هذه الحرب التي أكلت الأخضر واليابس، ولكنَّ شاعرنا الكبير لم ينسَ أن يترك لنا بصماته راسخةً في الذاكرة الشعرية العربية فهو الذي علَّمَنا أنَّ الشعر ما هو إلا ردَّةُ فعلِ الإنسان ضدَّ الموت.. الموتُ هذا الرحيل الجليل الغامض الذي لم يستطع الإنسانُ تفكيكه منذ الكائن الأوَّل حتى عصرنا الراهن.