تفيد الكتب الشعرية الكثيرة التي تصدر بين وقت وآخر في لبنان وسورية لشعراء وشاعرات سوريات على حجم الحراك الثقافي والشعري تحديداً هناك لتقدم تصوراً واضحاً عن حجم التجارب الشعرية الجديدة التي ظهرت خلال السنوات العشر الأخيرة. هذه الدواوين بأحجامها الصغيرة عادة والتي لا تتجاوز المئة صفحة تحتوي على تجارب غضة وأخرى ناضجة وقسم أخر واعد يشي بمواهب قادمة. في هذه المقالة نمر على تجارب ثلاثة شعراء سوريين متقاربين في العمر والنظرة، احدهم اصدر اكثر من كتاب شعري واثنان في الكتاب الأول. هذه الدواوين الثلاثة صدرت كلها عن دار الغاوون. ريمة البعيني في ديوانها الأول «احتفظ بالباقي « تكتب نصوصاً قصيرة اقرب إلى الهايكو في القسم الأول من الكتاب لكنها لا تعتمد تقنية الهايكو بقدر ما تحاول مجاورتها، وفي القسم الثاني من الكتاب نجد نصوصاً قصيرة أيضاً ولكنها لا تبتعد عن المنجز الشعري العربي الجديد في قصيدة النثر. تكتب البعيني القصيدة اليومية الواضحة الخالية من أية بلاغة وتنحاز إلى همومها الشخصية كامرأة شرقية غارقة في الحب وتقلباته «في الليل / يجرحني حزن عينيك / فكيف اعلم الصبح / أن يأتي باكرا». لا تطرح ريمة البعيني في هذه المجموعة أسئلة كبيرة، بل هي غير معنية بها وتكتفي بنبرتها الخفيضة بالمرور بالأشياء، الصغير منها أو الكبير لتستعين بها على إيصال ندائها الذي لا يكاد يسمع لشدة خوفته ورقته. هذا الخفوت في الصوت يدلنا على اللغة المسترخية التي كتبت بها النصوص، كما يدلنا على الصور الشعرية التي لا تحلق بعيداً عن الأرض لكي لا تصبح غامضة «كم من مرة/ قشرت الذنوب عن جلدي / كم من مرة / قبضت على قلبي / وهو يدق طبوله استعداداً لمجيئك / كم من مرة / جرتني قدماي إلى بابك / كم من مرة / تسلل مني ظلي / ليندس في حضنك «. غمكين مراد هو اآخر يصدر كتابه الأول «الروح أوسع من إن يلبسها جسد «. ومن العنوان الطويل سنستشف النصوص الطويلة التي ضمها الكتاب ببنيتها السردية التي تعتمد على التكرار من اجل توليد المعاني. لا يشذ غمكين مراد عن زميليه الآخرين بانحيازه إلى اليومي والمألوف وإلى الموضوعة الأثيرة لدى الشباب، الحب والتغزل بالمحبوب، لكنه يختلف عنهما باللغة التي تبدو مترجمة لكونه كردياً ومحاولته إضفاء غطاء من الفلسفة على نصوصه. «محض عبث يزاحم الترتيب في مجازاته / على المصائر / يغازل اختلال راحة في ميزان الوقت / يملأ سلالاً للفاكهة من شجرة السم / تحمله الموازين إلى القدر المنسوب إلى أبيه». لا يستطيع مراد في هذا الديوان وهو الأول، الخلاص من تجربة الشاعر سليم بركات ولكنه لا يصل إلى لغة بركات ولا صوره الشعرية ونستطيع إن نبحث عن أعذار كثيرة له لأن هذا هو الديوان الأول له فلم ينج أي شاعر من هذه المرحلة. لكننا بالمقابل نجد التماعات وبصمة غمكين مراد في بعض النصوص التي يشدها الواقع إلى مساميره بخيوط من فضة «الآن أطرز قميص الخيال بالفضة / اصنع حذاء الرحيل من حديد / اعلق على جدران الصمت مرآة غيابي / اكتب بحبر الحنين عن قدري». يمتاز أديب حسن محمد عن زميليه بخبرة أطول وعدد من المجاميع الشعرية تصل إلى ستة كتب شعرية صدرت في أوقات مختلفة، وفي ديوانه الجديد هذا يقدم قصيدة طويلة واحدة تحت عنوان «البرية كما شاءتها يداك « تذكرنا بعمل الشاعر العراقي المقيم في سوريا محمد مظلوم. على حد علمنا لم يستخدم شاعر حديث تقنيتي الشعر العمودي مع تقنية قصيدة النثر في كتاب واحد أو تجربة واحدة سوى الشاعر محمد مظلوم ولا مجال هنا لنقد تجربة مظلوم لكن للضرورة أحكامها كوننا نريد الإشارة إلى تجربة جديدة هي تجربة أديب حسن محمد. يبدو أديب في هذه القصيدة الطويلة اكثر واقعية من زميليه في تناول موضوعته الشعرية ولا يتورع من استخدام الأشياء كما هي وبمسمياتها الواقعية دون إن يحدث أي خلل في سرده الشعري، على صعيدي الزمان والمكان. انه يسرد قصة حب شعرية طافحة بالشغف والحنين تجمع في ثناياها عاشق من القامشلي وعاشقة غادرت إلى الغرب لتستقر في السويد. الجميل في هذه القصة هو ما يتخيله العاشق القامشلي حول الحياة الجديدة لمحبوبته التي ستصبح أميرة أوروبية ترتدي ملابس النساء الأوربيات وتقلد طريقتهن في المشي والكلام. «بسنواتك الممتدة كنهر / من القامشلي إلى أوروبا / حيث طيورك الجريحة / تنقر الأوتسترادات / بحثاً عن سماء سقطت سهواً من صدريتك / حين كانت المدارس من طين / وقش / وصبية يتقاسمون باحة / أضيق من كوة في السجن». لابد لأي نص طويل من التكرار والحشو إذا لم يكن الشاعر واعياً لذلك، وهذه المشكلة لا يكاد ينجو منها أي شاعر يكتب نصاً طويلاً حول موضوع واحد، وهذا ما لم يستطع إن يتخلص منه أديب حسن محمد لكن ما نجح فيه أديب هو انه قدم لنا تجربة حقيقية ومقاطع شعرية جميلة هنا وهناك من نصه الطويل هذا مثل هذا المقطع الذي لا يخلو من مرارة حقيقية «وحين أضيع كعادتي / كلما تملكني نزق الصعاليك / تدقين باب الدخان / وتخرجينني من مكمني / حافياً اصعد الهواء / أقيس حرارته / وضغطه / وأجهد في إنعاشه / كي لا يموت / ويأخذ معه كل ما تركته / مذنباتك السريعة / يضحك الهواء المتواطئ مع الموت / يصعد / فأتبعه / ويتبعنا الموت / بمكر غامض».