غيب الموت يوم الأربعاء الماضي الشاعر والكاتب الصحافي سليمان الفليح عن 67 عاماً. وألقى رحيل صاحب ديوان «أحزان البدو الرحل» بظلال قاتمة على نفوس محبيه، ولاسيما أنه كان يتمتع بشعبية جارفة بين الشعراء على تنوع ما يكتبونه، وبين المثقفين باختلاف مشاربهم. والراحل الذي جاء موته مفاجئاً، إذ كان في الأردن في رحلة سياحية، فتعرض لوعكة صحية انتهت بوفاته ودُفن هناك، عرف محارباً في حروب الاستنزاف 1973 ثم في حرب تحرير الكويت، إذ كان جندياً في الجيش الكويتي، التي شهدت تشكلاته الأولى شاعراً وكاتباً من طراز مختلف، قبل أن يعود إلى الرياض ويقيم فيها بشكل دائم. والشاعر الفليح هو من البدون سابقاً في الكويت ثم حصل لاحقاً على الجنسية السعودية. وأصدر الفليح عدداً من الدواوين، منها «ذئاب الليالي» و«الرعاة على مشارف الفجر» و«البرق فوق البردويل». وكتب عن شعره عدد من الباحثين، مثل نجمة إدريس وعبده بدوي وسواهما. وترجمت أشعاره إلى اللغات الإنكليزية والروسية والفرنسية. كما اشتهر الفليح كاتباً صحافياً ساخراً، عبر عموده «هذرلوجيا»، الذي كتبه في أكثر من صحيفة سعودية وكويتية، وكان يتفاعل فيه مع الكثير من القضايا، وجلب له شهرة واسعة، جعلته قريباً من مختلف شرائح المجتمع ليس في السعودية فقط، إنما أيضاً في الخليج. عاش الفليّح سنوات منتمياً إلى فئة «البدون»، مستلهماً معاناتهم في شعره، ومنحازاً إلى قضاياهم، قبل أن تمنحه السعودية الجنسية ويستقر فيها مع أسرته. كان للفليح اهتمام خاص بالصعاليك وشعرهم، مثل عروة بن الورد والسليك بن السلكة والشنفرى وتأبط شرا وغيرهم. واعتبرهم «فرساناً تميزوا بالبسالة والإقدام والكرم والإنسانية. يمكننا القول إن صعاليك العرب سلكوا أسلوباً واحداً في الحياة، آمنوا بأنه الأسلوب الوحيد الذي يستطيعون به أن يرفعوا عن كواهلهم ما وضعته فوقها ظروف مجتمعاتهم الجغرافية وتقاليدها الاجتماعية وأوضاعها الاقتصادية من ضيم وهوان». آخر ديوان صدر للشاعر الفليّح عن نادي الجوف الأدبي، هو «البرق فوق البردويل»، وتضمن نصوصاً «تسيطر عليها المناخات الصحراوية وأجوائها المتعددة وإيحاءاتها الحديثة وتستلهمها بقوة، كما ترفل برموزه الشعرية المتفردة التي عرف بها الفليح إلا أن اللافت في هذه التجربة الجديدة اقتحام الشاعر عالم البحر ورموزه، من خلال معايشة متأخرة لهذا العالم الغريب، المجموعة حفلت كذلك بالإسقاطات والتضمينات للشعراء العرب الأولين والمتأخرين». وكان الكاتب إبراهيم الحميد الذي شغل منصب رئيس نادي الجوف الأدبي آنذاك، عبر عن «ابتهاج ناديه بصدور ديوان الشاعر الفليح، الذي يتميز بحضوره الفاعل على الساحة الثقافية، إضافة للوعي ووضوح الرؤية والروح الشعرية العالية وتميز النص الشعري لديه، بالأصالة والحبكة القوية، واللغة المتقنة، وهو ما يشعر قارئه بقوة القصيدة وجزالتها مع أول تصفح للديوان». وقال إن «النادي سُعد بهذا الديوان، بخاصة لأنه يأتي لقامة شعرية وأدبية في حجم الشاعر سليمان الفليح، الذي يأتي ديوانه إضافة مهمة إلى المشهد الشعري». وأضاف الحميد: «نعتبر إن صدور الديوان عن أدبي الجوف إضافة مهمة، لمطبوعات النادي التي يحرص على أن تعكس المشهد الثقافي المحلي والعربي، وقد اختارت لجنة المطبوعات الديوان من بين عدد من الأعمال المقدمة ليكون في صدارتها». ومن آراء الشاعر الراحل أن الشعر الجيد «يفرض نفسه سواء كان بالشعبي أم الفصيح، قديماً كان أم حاضراً ومن أي مدرسة أو موضوع». وكان يقول: «لا يوجد شاعر كبير أو صغير هنالك شعر عظيم وهنالك شعر سقيم، والشعراء في رأيي يشبهون الذين يغوصون للقاع لالتقاط الكثير من الأصداف، ولكن النتيجة تقاس بما في هذه الأصداف من جواهر». وقال أيضاً: «إن الشاعر هو انعكاس أو مرآة لمجتمعه وزمنه، والشعر الجيد هو الذي ينقل الصورة الحقيقية للزمن الذي يعيشه الشاعر». هنا شهادات لشعراء وكتاب عن الراحل: عبدالله الصيخان: آخر البدو الرحل رحمك الله يا سليمان الفليّح: يا آخر البدو الرحل، كم غنيت في صحراء الألم ولممت أحزان البدو الرحل ورافقت الرعاة على مشارف الفجر مشدوداً. إلى خيمة القيم التي عشت تحت ظلالها ومن أجلها، مرتحلاً دوماً كصقر في فلاة المعتى، آخيت بين شعرنا الفصيح والشفاهي متجلياً الجمال الكامن بعين البصير وقلب المحب، أحببتَ في صعاليكهما نكران الذات فاستضفت الشنفرى «وإن مُدت الأيدي إلى الزاد لم أكن/ بأعجلهم إذ أجشع القوم أجهل» في مضارب شليويح العطاوي. وان قلت الوزنةْ .. وقومي مشافيح/ أخلي الوزنةْ لقومي وأشومي». ونزوعهما إلى عدالة اجتماعية، وتبحث في ما بينهما، على رغم تباعد العصور وانزياح اللغة، عن الصوت الشعري الحي في وجه واقع اجتماعي ظالم . يا أبا سامي ترقد في الشمال حيث كنت باحثاً عن الحماد (حيث وُلدتَ) في الحماد الممتد كشريان في صحرائك، قريباً من هيجنة أخيرة لنمر بن عدوان وبحة ناي لراع لم يسق شياه الوقيعة بين البشر، في الشمال حيث مضارب البدو لم تزل منصوبة في صحراء الترحال مقتفياً آثارهم خلف الشعر والمطر وما يجمع النسيج العربي في حكاية شعبية أو أنة ألم، في رحلتك الأخيرة كنت تنزف كلما قتل أو جُرح عربي، ولعل هذا الدم المنساب قد أضعف قواك على مواصلة كتابة ديوان الألم في سيرتك الشعرية. يا صديقي أي شيح وخزامى ضاعت في قصيدتك قبل عقود فأدهشتنا، وقادتنا إلى برية شعر جديدة. نقتفي فيها أثر قرني الأيل على صخورها ورشاقة الضباء فوق رمالها وأنفاس الغيمة في صحراء عطشها .. فسلاماً عليك/ دع البكاء يا أيها الحكاء والشكاء/ واغنم زمان/ النصب/ ثم السلب/ ثم النهب/فأقذر الأشياء في/ زماننا صارت هي/ الذكاء» شعر سليمان الفليح. عبدالرحمن الدرعان: قنديل يوزع ألقه على كل الجهات من الصعب العثور على كلمات تواكب الفاجعة بخبر وفاة الشاعر والكاتب سليمان الفليح، ولعلي أستطيع أن أزعم بأنني أحد الذين تلقوا وقع نبأ رحيله بذهول مضاعف، إلى الحد الذي أسرى بي هول المفاجأة إلى عدم التصديق. لا أعرف من الذي قال: «أدرك بأنني سوف أموت ولكنني لا أعتقد ذلك. ففي لحظة طافت بي الذاكرة عبر شريط طويل من المشاهد، كما لو أن الموت هو حياة على نحو ما وانطلقت بداخلي صيحة وأطبقت جفني للحظات»، متسائلاً: ترى هل رحل هذا الولد البدوي المشغوف بالأرض العريضة؟ هذا القلب المغزول على هيئة خريطة يعمرها أكثر من وطن؟! هذا المشموس بحب الأرض والناس! إن أهم ما يميز هذا الشاعر العاهل أنه أشبه بقنديل يوزع ألقه على كل الجهات، له سريرة بيضاء تشبه قاع النهر، محب للجميع بلا استثناء. رجل مشغول من بضعة طوابق، يطل من كل الشرفات بتلك الروح البيضاء العامرة بالحب. لست بصدد الحديث عن تجربته الشعرية والأدبية، ولا تسعني الكلمات لأختصر مسيرته وسيرته، لكنها دمعة ما تزال تترقرق في عيني إزاء علَم من الأعلام النادرة في وطننا، ولعلي والزملاء في نادي الجوف الأدبي على نحو خاص أكثر الذين ثكلوا هذه القامة الشعرية، لأكثر من سبب ليس هنا أوان ذكرها. محمد جبر الحربي: كتب الشعر وعاشه كان الشاعر المبدع سليمان الفليّح - رحمه الله - لا يكتب الشعر فحسب بل يعيشه، فهو نبضه وواقعه وحلمه، وكان مسالماً على رغم الثورة الموجبة التي تشتعل في داخله، منحازاً للبسطاء وقضاياهم، مدافعاً عن حقوقهم، نبيلاً مع الجميع، غيوراً على التراث الشعري العربي بشقيه الفصيح والشعبي، ومهتماً بالجمال والفنون جميعها، محباً للناس كل الناس، ولأحاديثهم وصخبهم،عرفته أوائل الثمانينات الميلادية وزرته مرتين في الكويت، ثم صار بيننا هنا في الرياض. وعلى رغم ندرة لقاءاتنا أخيراً، إلا أن الحب لم ينقطع. كتب لمجلة اليمامة وهو في الكويت شعراً ونثراً، ثم كتب لصحيفة الرياض والجزيرة زاويته الشهيرة «هذرولوجيا». أعتبره أحد مؤسسي تجربة الشعر الحديث في الخليج والجزيرة العربية، وصعلوكاً نبيلاً كما هو الشنفرى وأقرانه الكبار. سعدية مفرح: شخصية استثنائية كان الشاعر الراحل سليمان الفليّح - رحمه الله - شخصية استثنائية على صعيد الشعر والحياة كما يليق بشاعر حقيقي، وقد ظل مخلصاً لصعلكته النبيلة حتى النهاية وفي كل مرحل من حياته التي تشظت بين الكويت والسعودية، ليس على صعيد الجغرافيا فحسب، ولكن أيضاً على صعيد العشق السرمدي للمنبع والمصب من دون أن يغفل انتماءه العربي، الذي انفتح عليه مبكراً وكانت كتاباته الصحافية في صحيفة «السياسة»، إذ بدأ مشواره الصحافي بداية السبعينيات الميلادية شاهدة على اهتماماته القومية الكبيرة. وقد رافق سليمان الفليّح في تلك الفترة فنان الكاريكاتور الفلسطيني الكبير ناجي العلي، وتأثر به كما حكى لي شخصياً في مرة من المرات. وعلى رغم أن الفليّح تميز كثيراً عن أقرانه ومجايليه من الشعراء الكويتيين في بداياته ومع صدور ديوانه الشعري الأول عام 1979بعنوان: «الغناء في صحراء الألم» باعتباره كتب قصيدة حديثة بنكهة بدوية خالصة على صعيد اللغة والمعاني الكامنة وراءها، إلا أنه توقف لاحقاً معطياً جل اهتمامه للشعر الشعبي، الذي لم يكتب منه سوى القليل جداً، ولكنه اهتم بصحافته وبشعرائه من الشباب الذين تتلمذوا على يديه وأخذوا الكثير منه. وعندما عاد الفليّح للكتابة الشعرية والصحافية لاحقاً بشكل متقطع ثم بشكل منتظم كانت قد اتسعت مكانته بين الشعراء العرب من مجايليه، ولاسيما أنه حرص على الانفتاح العربي دائماً. شتيوي الغيثي: بسيطاً جاء وبسيطاً رحل رحيل سليمان الفليّح، هذا البدوي الساكن شمال القلب، وربيع المعنى، كان رحيلاً هادئا كهدوء الشمال الذي لم تجد فيها «ذعذوع» الصحراء، بصفاء أهله الطيبين البسطاء. بسيطاً جاء وبسيطاً رحل.. لكن أدبه كان أكبر من أي بساطة، رحل بشياه المعنى معه التي كان يسرح بها في فضاء القصيدة. تلك الشياه التي صاحبنه منذ طفولته، ومنها تعلم كيف يترتب كلمات البدوي في تلك الأناشيد التي غناها بعيداً عن شياه الطفولة. رجل اختزل أصالته في حداثته حتى يمكن أن نصفه ب«بدوي الحداثة السعودية». رحل أبو سامي محملاً بكل عشق البدوي وعنفوانه وحريته. لم تكن البداوة بالنسبة إليه عاملاً تأخر بل تقدم. فهم قيمة الحضارة الحديثة التي لا تختلف عن قيم البدوي الحر، فمزج بين الروحين ليخرج لنا ذلك الشعر البدوي الجميل بثوب الحداثة الأجمل، فكانت له فرادته الشعرية التي لا يوازيه فيها إلا القليل من شعراء الحداثة السعودية. كان البدوي بالنسبة إليه هو ذلك الإنسان الذي يحمل قيماً الكرامة والفخار والحرية. كانت صعلكته الفكرية هي أكثر ما ميز أدبه. كان ينظر إلى صعاليك العرب نظرته إلى البدوي الحر الذي لا يرضى الذل. أليس البدو كذلك؟ هكذا كان الفليّح يأخذ الشعر العربي إلى بدويته التي أنتجتها صحراء، عرفت من قبل شعراء الجاهلية فكان الفليح شاعرها الذي أعاد وهج الشعر البدوي - الحداثي إلى الواجهة. يا لها من مفارقة تلك التي أخذته إلى تلك اللغة وذلك الشعر البديع، ليبدع لنا فرادة شعرية لا مثيل لها إلا الفليح نفسه. الأقاصي إلى سيف الرحبي أينما كان النجمة لؤلؤة الفضاء تتدلى فوق رؤوس سكان البسيطة، الذين يرنون إليها باستمرار ويعشقون هذه الفاتنة البارقة الصعبة المنال. * * * الليل شعرها الأسود الكثيف. الفجر بسمتها الأخاذة المشرقة. الصباح جيدها البض. الظهيرة قوامها الأشقر المشع. * * * القمر أمير الليل يقتعد عرشه الفضي في السماء، ويرسل نوره الحسود ليلغي ضوء كل الكواكب عبر اتساع الخلاء. * * * الريح مكنسة الفضاء وتقشعات الغيم، وصفير قيثارة الأزل النائحة. * * * الغيوم ستائر بيضاء أو سوداء تواري سوأة البرق عند احتدام السحاب. السكون كمام صهيل الرعد حينما يهدر كفحل الجمال قبل أن يزخ المطر. * * * العجاج حجاب الخليقة ترتديه الزوابع المرسلات لكي تحجب النور عن أعين الناس لكي لا يرى إلا نصف الحقيقة عارية في الغبار. * * * العواصف تلخبط شكل الحياة ولا تتأسف للكائنات. * * * الهلال منجل الخير وقوس النصر وسيف الأمل تماماً كوجهك يا (سيف). * * * الفجر شفاه الكون الوردية التي تبتسم لكل غد بهيج. * * * الشمس.. أم الحياة وإشراقه العالمين. من «البرق فوق البردويل»