إذا كان ما يحدث في الشقيقة سوريا قد كشف حقيقة الصراع للأسف، الذي طالما كان نظام بشار الأسد يسعى إليه، ويروّج له، وربما لا نبالغ إذا قلنا إنه من ضمن سيناريوهاته المفلسة، كجزء من الخطة التي تتبنى تقسيم البلاد وتفتيتها، إلا أن المشهد الأخير في مدينة القصير، وما قبلها بأسابيع، كشف بجلاء عن الوجه القبيح للطائفية المقيتة، التي تخفت وراء شعارات وأوهام، طالما صدّقها البسطاء والعامة من الناس المغرّر بهم، والمدفوعين بأجر ليكونوا وقودًا لحرب وقتلة لشعب وأشقاء. وما فعله تنظيم «حزب الله» كمثال، يدلل على أن هذا الحزب وأسياده في طهران، ما هو إلا نموذج صارخ في التدخل السافر، والاصطفاف العقائدي من جماعة لها أيديولوجياتها التي طالما تغنى قياديوها بالمقاومة والانتصار لحق الشعوب، والوقوف ضد الظلم والقتل والتنكيل. مؤامرة مكشوفة وعندما اندلعت حرب لبنان المفتعلة والمقننة في يوليو 2006م، رأى كثيرون أنها حرب بالوكالة، أنجر إليها البعض، رغم أنها تعبير عن صراع بين اليهود (إسرائيل) والفرس (إيران) على أرض عربية هي لبنان، كتب محللون كثر سطورًا نبّهوا فيها إلى خطورة ما يُسمى "حزب الله"، وأن للأمر ما بعده، والمؤامرة قادمة لا محالة، بشكل أو بآخر. الحزب الذي نجح وقتها في تصدير شعاراته لتغييب العقول باسم "معركته الجهادية ضد الصهاينة"، سقط بعد أقل من عامين في مستنقع ما يمكن اعتباره خيانة وطنية لأرضه وشعبه في لبنان، عندما قام في مايو 2008م ب"غزو" معاقل لأهل السنّة في بيروت الغربية، لينتبه البعض ويفيقوا من غفوتهم.. هكذا دائما يأتينا الوعي متأخرًا. أفاق العرب، وجموع غفيرة من المسلمين، على حقيقة الوهم الكبير، لأكبر مأساة فكرية ونظرية عاشوها طيلة سنوات عديدة، ربما كنا في حاجةٍ ماسة، لكارثة لنفيق من سكرة الشعارات والأيديولوجيات الخادعة، على وقع جرائم حدثت في لبنان، ثم مشاركة حزبية ممنهجة تقوم بها عناصر وميليشيات تحالف عقائدي بغيض، من ميليشيات حزب الله، و"الحوثيون" باليمن، وكتائب "عصائب الحق"، و"جيش المهدي" بالعراق.. ومقاتلو الحرس الثوري الإيراني.. مثّل استهدافًا صريحًا من محور "الشر" الذي يُعيد سلسلة أقوال تصدير الثورة الإيرانية، ونشر المذهب، والدفاع عن أنظمة تمارس الجور والعته، مثل نظام بشار المجرم في دمشق، في تدخّل صريح ووقح ينبغى مساءلته ومحاكمة المسؤولين عنه دوليًا. صحوة العلماء ربما كانت فاجعة مدينة القصير السورية، وما قامت به ميليشيات حزب الله، ورجال طهران في سوريا، إلى جانب تنظيمات إرهابية أخرى من العراق وإيران وشبيحة النظام، تلك التي استوجبت مراجعة شجاعة، من قبل بعض علماء الدين المسلمين، في تراجع عن مواقف سابقة لهم، أوضح عنها بجلاء الشيخ يوسف القرضاوي، الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين، حينما ذكر في لفتة جليلة من شيخ جليل، إذ قال بصراحة، في مهرجان أقيم في قطر قبل أيام لنصرة الثورة السورية: "إنني ظللت لسنوات أدعو إلى التقريب بين المذاهب، وسافرت إلى إيران في زمن الرئيس السابق محمد خاتمي"، وأكد في هذا الإطار على أن"هؤلاء المتعصبين (في إيران) والمتشددين يريدون أكل أهل السنة، هم ضحكوا عليّ وعلى كثيرين مثلي، وكانوا يقولون إنهم يريدون التقريب بين المذاهب وهم لا يفعلون". القرضاوي أيضًا في صريح مراجعاته أضاف: "دافعت قبل سنوات عن حسن نصر الله، الذي يسمّي حزبه "حزب الله" وهو حزب الطاغوت وحزب الشيطان، هؤلاء يدافعون عن بشار الأسد". وواصل يقول: "وقفت ضد المشايخ الكبار في السعودية، داعيًا لنصرة حزب الله (قبل سنوات)، لكن مشايخ السعودية كانوا أنضج مني وأبصر مني، لأنهم عرفوا هؤلاء (الإيرانيين وحزب الله) على حقيقتهم.. هم كذبة". الشيخ القرضاوي، في أعنف رد فعل له، لم يكتف بذلك، بل أكد أنه لم يكن على صواب حينما "ناصر حزب الله اللبناني وخاصم من أجله علماء المملكة العربية السعودية" وقال القرضاوي عن زعيم حزب الله اللبناني حسن نصر الله: "يسمّونه نصر الله هو نصر الطاغوت والظلم والباطل، جاء ليقتل أهل السنة (في سورية)"، مشيرًا إلى أحداث القصير. وقال إن النصيريين أكفر من اليهود والنصارى. واعتبر أيضًا أن "الثورة السورية أجلت الحقيقة وبيّنت حقيقة حزب الله وشيعته الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله". اعتراف جليل تصريح عالم كبير مثل الشيخ القرضاوي يُعيدنا إلى حقيقة موقف كبار علماء المملكة وهيئتهم الجليلة، التي وإن كان إقرار الشيخ القرضاوي بصوابها في رأيها من الحزب، وحجية منهجها في استباق فهم أسلوب الصراع وحقائقه، دينيًا ومذهبيًا، إلا أنه يثبت أيضًا أن كبار علماء المملكة العربية السعودية، هم بحق رجال الحق في هذا الزمان.. وأن الدولة السعودية الحديثة التي أسَّسها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل، وسدّد بُنيانها أبناؤه الميامين هي واحة الإدراك الكامل بمصالح الأمة، وفق صريح الدين ومنطوق قيمه الخالدة، بعيدًا عن تزييف الحقائق أو تزوير الوعي وتخدير الناس. وفي هذا السياق، يتجلى للجميع، ما قاله سماحة المفتي العام رئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن محمد آل الشيخ من أن "المملكة منذ تأسيسها وإلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، كانت وما زالت - ثبّتها الله - مناصرة لقضايا المسلمين، وللقضايا العادلة في كل مكان ، وهي في ذلك لا تستند إلى حساباتٍ سياسية ضيقة، ولكنها تنطلق من العقيدة الإسلامية التي تأمر بالعدل وتنهى عن الجور والظلم". الحزب الذي نجح وقتها في تصدير شعاراته لتغييب العقول باسم «معركته الجهادية ضد الصهاينة»، سقط بعد أقل من عامين في مستنقع ما يمكن اعتباره خيانة وطنية لأرضه وشعبه في لبنان، عندما قام في مايو 2008م ب«غزو» معاقل لأهل السنّة في بيروت الغربية، لينتبه البعض ويفيقوا من غفوتهم.. هكذا دائما يأتينا الوعي متأخرًا. الكبار كبار هيئة كبار العلماء، وعلى لسان سماحة المفتي العام، لم تستغل إعلان الشيخ القرضاوي، بموقفه من حزب الله، لتصفية مواقف بعينها، أو استثارة لمشاعر متباينة، ولكنها إيمانًا منها بقدر العلماء وتوقيرهم أيًا كانت رؤاهم وتفسيراتهم، تحفظ لهم قدرهم، وتحترم فيهم علمهم واجتهاداتهم، لذا شدت على يد الشيخ الجليل، وتأييده في رجوعه إلى موقف كبار علماء المملكة، الذي كان واضحًا من هذا الحزب الطائفي المقيت منذ تأسيسه.. ليس هذا فقط، ولكن لأن الكبار يظلون كبارًا، قال سماحة المفتي العام بصراحة: "إننا بهذه المناسبة لنشكر لفضيلته هذا الموقف الذي ليس غريبًا منه، إذ إنه يذكر بمواقف كبار العلماء عبر التاريخ في رجوعهم إلى الحق متى ما استبانوا الموقف الراشد". مجددة الدعوة لكل "علماء المسلمين كافة إلى التآزر والتعاضد والتعاون في لحظة تاريخية حرجة للأمة الإسلامية تستدعي من الجميع صفاء القلوب والتعاون على كل ما يضمن لهذه الأمة وحدتها وقوتها ممتثلين قول الله تعالى {وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين}". حزب طائفي وهنا يبدو لافتًا للانتباه، وبناءً على هذه الرؤية، كانت دعوة سماحة المفتي العام، للجميع "ساسة وعلماء إلى أن يتخذوا من هذا الحزب الطائفي المقيت ومن يقف وراءه خطوات فعلية تردعه عن هذا العدوان، فقد انكشف بما لا يدع مجالًا للشك أنه حزب عميل لا يرقب في مؤمن إلًا ولا ذمة". رأي ديني، غير مرتبط بموقف خصومة شخصية، ولكنه تعبير عن تفهّم لواقع ممارسات هذا الحزب "الشيطاني، الذي تخندق في جرائم العدوان السافر "متضامنًا ومتعاونًا مع النظام الظالم في سوريا ضد الشعب السوري الشقيق".. وبعد انفضاح أمره وأمر "أسياده في طهران" حيث اتضح للعيان مدى الجرم والخيانة التي يقوم بها جميع العملاء في حق الدين والوطن والشعوب. الجريمة الكاشفة ربما كانت الجريمة الكاشفة لتورّط ميليشيات "حزب الله" هي تلك الاحتفالات العارمة، باحتلال مدينة القصير السورية، وما نقلته الأنباء والمعلومات عن الجرائم التي ارتكبتها هذه الميليشيات، مع شبيحة نظام الأسد، ضد الأهالي، وعمليات القتل والاغتصاب والترويع والتفجير هناك، لتنقلب الآية، وتتضح الصورة الكاذبة في مستنقع الشعارات والأكاذيب.. ولتظل الأسئلة قائمة على لسان الجميع: كيف يتباهى مسلم بقتل شقيقه ويحتفل ويمارس الرقص على الأشلاء؟. كيف لمن يدّعي المقاومة ضد العدو، أن يجعل من شقيقه العربي عدوًا بديلًا، يستبيحه ويستحل دمه وعرضه؟ كيف لمن يتحدث عن الإخاء وعن وحدة العقيدة، أن يتصرّف بمنظور طائفي، يجر فيه المسلمين إلى مستنقع العنصرية والطائفية؟ كيف يستطيع أي شخص يدّعي الإسلام، أن ينقل معركته المزعومة مع العدو الصهيوني إلى قلب بلد عربي، هو دمشق وحمص وغيرهما من المدن السورية، ويتصرّف كأنها تل أبيب؟ فضيحة أخلاقية ربما تكون الإشكالية المروعة، كما وصفها أحد السوريين، أنفسهم، وهو مسيحي للتذكرة وليس مسلمًا، عندما يكتب على شبكة التواصل الاجتماعي "فيس بوك" من أنه "رغم حماس المقاتلين واندماجهم في المنظومة المذهبية الايديولوجية ل"حزب الله".. يقطع الحزب عن كل مقاتل يتخلف عن القتال في سوريا راتبه الشهري (800 دولار شهريًا) وكافة التقديمات والمساعدات التي يحظى بها، والتي اعتاد عليها منذ سنوات.. سيمضي وقت قبل ان تقرر آلاف العائلات الشيعية اللبنانية التفتيش عن وسيلة عيش بديلة تغنيها عن الارتباط بحزب الولي الفقيه".. ويقرر بأسى :"يموت الشباب اللبنانيون الشيعة هذه الايام ليس دفاعًا عن المقامات ولا عن الطاغية الاسدي.. بل عن لقمة العيش".. لتكون فضيحة استغلال حاجة الناس وتسخيرها من أجل الموت دفاعًا عن فكرة جهنمية.! فضيحة أخلاقية تدفع الناس لما تسمّيه شياطين الحزب "الجهاد" كوسيلة لتوفير لقمة عيش مغموسة بالدم، وعلى أنقاض الجماجم وثمنها للأسف، توابيت عائدة إلى الضاحية الجنوبية.. وأبشع جرائم قتل على الأرض السورية؟!. جريمة الصمت من المؤسف أنه وكما قال بعض الكتاب في الوقت الذي كان فيه السلاح المذهبي الإيراني والعراقي واليمني واللبناني، يمارس على مدى شهر كامل مسلسل الذبح الممنهج والجنوني ضد العرب السُّنة في القصير.. كان السياح الإيرانيون يرفلون في نعيم الخدمة المصرية في الصعيد وعلى الشواطئ الشمالية وحول "مقابر" أهل البيت! بل انتشر بالتزامن مع الاجتياح الشيعي ل"القصير" على التليفزيون المصري، إعلاميون يعملون في إدارة مكتب قناة "العالم" التابعة لجهاز الاستخبارات الإيرانية، وهم يدافعون عن إيران، وينزلونها منزلة "الإقليم الرائد" في المنطقة. من المؤلم أن بعض المحسوبين على التيارات الإسلامية، في العالم العربي، ومنهم قادة وعلماء ومفكرون وكتّاب وساسة.. أولئك الذين مارسوا بقصد أم بغير قصد تزييف الوعي وتزوير الحقائق لسنوات طويلة! لم يصدروا حتى الآن أي بيان يتعلق ب"القصير".. الدنيا كلها تتكلم عن "الكيماوي المذهبي" الذي حصد أرواح العرب السُّنة، وأحرق أجساد نسائهم وأطفالهم وشيوخهم وبيوتهم.. وأحالها إلى "خرابة".. فيما يلوذ عديدون بالصمت.. أمام ما فعلته طهران.. التي أرسلت "التهنئة" لمقاتلي عصاباتها ل"انتصارهم" الدامي. القدوة المطلوبة أخيرًا فإن موقف عالم جليل مثل الشيخ يوسف القرضاوي، أكد على أن علماء المملكة الأجلاء، قد قرأوا الحقائق مبكرًا، ووعوها بصدق، ووقفوا ضدها بشجاعة المؤمن بعقيدته، والمدرك أن الزمن مهما تأخر كثيرًا أو قليلًا.. فإن الأيام ستجلي العديد من الأمور والمواقف. الموقف الشجاع الذي يجب على كل مَن سبق له أن هلل وأعجب بهذا النبت الشيطاني، أن يتخذه الآن، هو مراجعة نفسه، وتحديد أولوياته، بعيدًا عن الاستمرار في الخطأ، وقد اتضحت معالم الجريمة الكاملة، وانفضح المخطط المؤامراتي الكبير. على أتباع هذا الحزب، أن يدركوا أن الاعتراف بالحق فضيلة، لا تنقص من قدر الشخص بل تزيده احترامًا لذاته ووسط الناس. وعلى العقلاء ألا يستمروا في المكابرة، والتبرير والبحث عن أعذار جديدة، هي في النهاية من وسوسات الشيطان وحزب الشيطان، وكبير شياطينهم الذي ينعق ويصرخ بالتهديد والويل والثبور وعظائم الأمور، فيما هو ذاته، لا يستطيع أن يخرج على الملأ، ويجبن عن مخاطبة أتباعه علنًا، مكتفيًا بالحديث من وراء حجاب أو شاشة.