سمعت بأستاذنا الكبير الدكتور يحيى باجنيد أول ما سمعت في نهاية التسعينيات الميلادية كنا مجموعة من الشباب أيام الجامعة نداوم على مكتبة مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية للدراسة والبحث وكان أستاذنا القدير هو الأمين العام لمركز الملك فيصل ولا زال أطال الله في عمره. كنت في تلك الفترة قد أصبت بنوع من الانطواء الإرادي حيث اعتزلت الناس وعكفت في صومعة المركز أقصد مكتبة المركز قراءة وبحثا وتجميعا في مواضيع شتى في الأدب والشعر والتاريخ والسياسة والعلوم الشرعية. لا يقع في يدي كتاب إلا قرأته ودونت ملاحظات عليه ثم أضعها في ملف دون ترتيب أو فهرسة وبطريقة عشوائية حتى تجمع لدي أكثر من 57 ملفا ومع مضي الزمن تراكم عليها الغبار ثم انتهى بها المطاف إلى سلة المهملات. كانت مكتبة المركز تعمل من الساعة التاسعة صباحا حسب ما أذكر حتى رغم تقلده لكثير من المناصب. رغم غزارة علمه وموسوعية ثقافته وعمقه في التحليل إلا أنه ما زال متواضعا بشوشا لا يرى أحدا إلا ويبادره بالسلام يضع يده على كتفه يسمع منه دون أن يقاطعه يحتضنه بعطفه وكرمه فكأن التواضع والكرم والأخلاق تجسدت في ذلك الجسم الهزيل الساعة الحادية عشرة مساء. كنت أصلي الفجر وقرابة الساعة السادسة أكون في المقهى المقابل للمركز تجنبا لزحام المواقف أشرب قهوتي وأقرأ الصحف جميعها حتى تفتح المكتبة ، أجلس فيها حتى تغلق الساعة الحادية عشرة تتخللها أوقات المحاضرات انتهي منها وأرجع للمكتبة. وبالتالي كانت لي المكتبة خير ملاذ وهرب عن الناس. كان أحد الموظفين يدخل بفطوره في الصباح فيجدني ثم يأتي في المساء بغدائه فيجدني ، تحولت هذه النظرات المتسائلة بعد فترة إلى تقارب فضولي فمعرفة فصداقة حميمة. كانت سيرة أستاذنا الكبير الدكتور يحيى باجنيد تملأ المكان اعجابا وتقديرا. فبعد أن ألفت الناس الذين يعملون في المركز وألفوني لم يعدوا يجبروني على الخروج خارج المركز وقت الصلاة فأصبحت اصلي معهم في المصلى الداخلي ويسبق هذا جلسة قهوة وشاي معتبرة يدور الحديث على مواضيع كثيرة وأغلبها عن المركز وعن الدكتور يحيى . كان الأستاذ دكتور راشد القحطاني الأستاذ في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الذي كان في تلك الفترة يدرس الدكتوراة مع الدكتور يحيى كبيرنا الذي يقود جلسة القهوة والشاي بسواليفه الممتعة وثقافته الواسعة وكبيرنا الذي يؤم الصلاة كنت دائما أمازحه اقول «يا شيخ راشد لا يؤم الصلاة إلا من كان قصيميا أو أقربكم للقصيم» فكان يضحك ويقول (صل يا بن عثيمين صل) ويكبر تكبيرة الإحرام . كان إذا جاءت سيرة الدكتور يحيى قال الدكتور راشد: هذا شيخنا شيخ المكتبيين وإمام الوراقين . مضت الأيام وبعد فترة قرر المركز لأمور إدارية ومالية تقليص ساعات الدوام إلى الساعة الرابعة ،حاولت الاستفسار من أصدقائي العاملين في المركز فكان الجواب لأسباب إدارية ومالية. لم أستطع تحمل هذا القرار فقررت الذهاب إلى أستاذنا الكبير الدكتور يحيى ، دخلت عليه فى المكتب وأنا متأبط خطاب الشكوى ولأول مرة أراه ، وجدت رجلا وقورا حاسر الرأس يدير ثلاثة أمور في وقت واحد ينظر في كتاب ويعلق على آخر ويرد على الهاتف أشار إلي بيده أن أجلس ثم بعد مضي قرابة الدقائق العشر أو ربع الساعة قال: إيش أقدر أخدمك يا ابني بلهجته الحجازية الجميلة ، تعقد لساني وبدأ العرق يسيل من على جبيني فمددت له الخطاب ويدي ترتعش دون ان أنطق ببنت شفة. كان الخطاب مكتوبا بأسلوب ساخر لم أعد أذكر الخطاب ولكني أذكر بداياته حيث ابتدأته ب(وسوست لي نفسي الأمارة بالسوء وهي بكل شر تنوء لماذا لا تذهب إلى شيخ المكتبات وتلقي بين يديه القصائد والمعلقات ثم تردفها بالمطالب والتوسلات عله يعيد إلينا الحياة بعد أن كنا على وشك الممات فقلت استعيذي بالله من الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس فهذا شيخ المكتبيين وإمام الوراقين) واستمر الخطاب على هذا الأسلوب الساخر. قرأ الدكتور يحيى الخطاب وما أن وصل إلى قولي (أتريدين أن يكثر عليك القيل والقال ويطال عليك الجدال ثم يفتعل على قول إخواننا الهنود أكبر جنجال) فضحك أستاذنا الكبير وهو يكرر جنجال يا ابني جنجال. ضحكت أنا بدوري وشرحت له الموضوع فلم يمض أكثر من أسبوع إلا والمكتبة تعود إلى أوقاتها السابقه وكفى الله المؤمنين شر القتال . بعد حصولي على الدكتوراة كنت متلهفا للذهاب إلى المركز مدفوعا بعبق الماضي وشغف المستقبل. فكان اللقاء بشيخنا وأستاذنا الدكتور يحيى بعد طول غياب. كان كعادته يجلس بوقار حاسر الرأس وطهر الزمان والمكان كان يتسلل بين أنفاسه ، حزنت لما رأيته يمسك عدسة مكبرة فقد ضعف بصره، فما أن نظرت إلى وجهه البشوش حتى انحنى عقد ونصف من الزمان ناسكا معتكفا امامه تذكرت لقائي الأول به وتذكرت ارتعاشة يدي والعرق الذي كان يتصبب من جبيني. عرفته بنفسي حاول أن يتذكرني لكن الذاكرة لم تسعفه على ما أظن . فدار الحديث طويلا حول رسالة الدكتوراة ثم عن بريطانيا وعن مدينة درم أعطيته مجموعة من مقالاتي ويتقدمها مقالي عن مدينة درم. رغم تقلده لكثير من المناصب. رغم غزارة علمه وموسوعية ثقافته وعمقه في التحليل إلا أنه ما زال متواضعا بشوشا لا يرى أحدا إلا ويبادره بالسلام يضع يده على كتفه يسمع منه دون أن يقاطعه يحتضنه بعطفه وكرمه فكأن التواضع والكرم والأخلاق تجسدت في ذلك الجسم الهزيل. سنظل يا استاذنا الكبير بمعية هذا الزمن الذي كرسته للعلم والتعليم والذي امتد لسنوات نستحضر روحه الطاهرة نغترف من دفء وطهر الذكرى المنهمرة على أرصفتها علها تروي نبتات مستقبلنا الذي سيكون بإذن الله امتدادا لهذا الحب والود والاحترام.