هذه دردشة رمضانية مع الدكتور ناصر الحنيني، يفتح لنا فيها صدره من مقر إجازته بالطائف، مستعيدا جزءا من ذكرياته ومواقفه التي لا تنسى، محلقا بنا في رحلة مع عدد من العلماء الأفذاذ كالمشايخ: عبدالعزيز بن باز، عبدالرحمن البراك، وعبدالكريم بن عبدالله الخضير، متناولا جوانب خفيت عن كثير ممن كانوا بالقرب منهم، مقدما حديثه الخاص مغلفا بالتوجيه والنصيحة. حديث الذكريات الرمضانية، هو ما يصح أن نطلق عليه من خلال حديثنا مع الدكتور الكريم.. فإلى فحوى الحوار: • لو تحدثنا عن جدولك اليومي.. كيف هو في رمضان؟ أولا أحييكم وأحيي جميع إخواني المسلمين، وأسال الله أن يتقبل منا ومنهم صالح الأعمال وأن يرزقنا وإياكم الإخلاص في القول والعمل. أما جدولي اليومي فيبدأ من بعد صلاة الفجر، حيث أمكث في المسجد قليلا؛ لأقرأ الأذكار، وأقرأ شيئا من القرآن، وأعود لأنام إلى الظهر، وبعد الصلاة أذهب لقضاء بعض الأغراض، وشراء الحاجيات اللازمة للمنزل، وبعد العصر أتفرغ للإجابة عن الأسئلة لمدة ساعة ونصف الساعة، وقبل المغرب أكون حاضرا مع والدي والأبناء لتناول الإفطار، وبعد المغرب نتناول العشاء، وبعد صلاة التراويح يكون الجلوس مع الوالدين أو الإخوان أو السمر مع بعض الأحباء، وهذا هو الجدول اليومي باختصار. • أوقات الفراغ لدى الشباب، وهي متوافرة لديهم بكثرة.. كيف يملؤونها؟ أقول ليست مشكلة، بل أزمة يقع فيها الآباء، والمسؤولية عليهم كبيرة، وإن كان طلب العون من الله، وفعل الأسباب التي تسهل على الأب أو ولي الأمر أن يشغل أوقات أبنائه والمسؤولية كبيرة في حقيقة الأمر، لكن ما دام الأمر متعلقا بطلب العون من الله، فسيكون سهلا بإذنه. • طغيان الحياة المادية على الناس كيف ترى تأثيرها؟ لا شك أن الحياة المادية قد أثرت في الناس كثيرا، ورب الأسرة أصبح يسعى كثيرا ليس وراء الضروريات، بل وراء الكماليات أحيانا، كما أن تعقيدات الحياة اليوم، وطفرة التطور جعلتهم ينساقون وراءها، لكن على طالب العلم أن يوازن بين الجوانب وألا يكون منساقا خلف هذا الأمر، وألا يكون متأثرا بها تأثرا كبيرا، والإنسان يحاول ذلك، والتوفيق من الله عز وجل. • الجوانب التي تحرص على زيادة منسوبها في رمضان؟ الإنسان يحرص على الإكثار من الطاعات، وبخاصة قراءة القرآن والصلاة والذكر والنفقة. • هل تجد أوقاتا للقراءة ولو يسيرة؟ نعم. عادة ما أقرأ أبحاثا في تخصصي وهو القضايا العقدية والفكرية، لكن لكثرة الاستفتاءات أحرص على قراءة الأبحاث في النوازل المعاصرة والمتعلقة بقضايا رمضان. • طلب العلم وقصتك معه إلى أن أصبحت شيخا الآن؟ لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير، الله المستعان، ما زلنا نطلب العلم وكلمة شيخ كبيرة علينا، وأقولها ليس تواضعا، لكن هذه حقيقة، ويجب على طلاب العلم أن يعرفوا قدرهم وألا يستجيبوا لضغوط المجتمع ويتصدر الإنسان للناس وهو لم يتأهل، نعم. قد يفتي الناس في الأمور الواضحات وأصول الإسلام، لكن لا يسوغ لطالب علم أن يتكلم في الذي لا يحسن، وقد آلمني كثيرا ما أسمع من طالب علم غير متخصص، بل قد يكون جاهلا في المعاملات البنكية، ثم يتكلم فيها تحليلا وتحريما، من دون معرفة لواقع المعاملات وتعقيداتها. وأعتذر عن عدم الاستطراد، لكن حقيقة، لم أكن أعرف أنني سأكون شيخا، لكن كانت تمر بنا لحظات ونحن نطلب العلم نقول لأنفسنا مع الإجهاد والتعب إننا لن نستطيع المواصلة، وكنا صغارا وفينا عجلة، حتى سمعت شيخنا العلامة الشيخ عبدالكريم الخضير يحدثنا عن مدة طلب العلم للعلماء، وكيف أنهم يظلون إلى سن ال40، وبعد ذلك يتصدرون لتدريس الناس. • كنت خطيبا وتركت الخطابة، ما الذي جعلك تقبل بها أولا.. ثم تتركها ثانيا؟ الخطابة، مهم أن يتصدر لها طلاب العلم، وأن يحرصوا على إفادة الناس، وبحمد الله، كنت أكتب الخطبة وأنشرها في الإنترنت؛ ليستفيد منها الناس وأرسلها إلى عدد كبير في الداخل والخارج، لكن بعد انشغالي بمركز الفكر المعاصر، وهو في مجال تخصصي في الفرق والمذاهب، كان لزاما عليّ أن أختار بين الخطابة أو المركز، ولأنه الوحيد في الرياض، وبعد استشارة واستخارة، اخترت المركز وتركت الخطابة. • من أكثر المشايخ قربا من نفسك؟ شيخنا العلامة الشيخ عبدالكريم بن عبدالله الخضير، والسبب في ذلك أني لازمته منذ عام 1409ه، وكنت من أوائل طلبته ولازمته حضرا وسفرا وليلا ونهارا، حتى كنت كأحد أبنائه ولمست في الشيخ سعة العلم وسعة الصدر لطلابه والكرم وحسن الخلق وسعة الاطلاع على الكتب والمراجع، فمكتبته من أكبر المكتبات في الرياض، خاصة أن له شغفا بجمع الكتب، خصوصا النادرة. • هل تذكر مواقف معينة حدثت معه؟ المواقف كثيرة.. فالشيخ كان له أثر كبير علينا في الاجتهاد في طلب العلم، وكان يعتني بطلابه كثيرا ويتفقد أحوالهم، وأذكر أنني عندما تخرجت في الجامعة وأردت أن أغادر الرياض؛ للتعيين في الوظيفة، رفض وأصر على بقائي وكتب للمسؤولين وشفع لي حتى أبقى، وفعلا كان موقفه بالنسبة إلي سببا كبيرا في استمراري في طلب العلم. ومن المواقف أن الشيخ كان يحب الكتب كثيرا، ومرة مازحت بعض طلاب الشيخ وقلت لهم: “هل تتحدوني أن أجعل الشيخ يخرج من المسجد بعد عصر الجمعة، ثم يرجع؟”.. قالوا: “نتحداك”؛ لأن الشيخ كان يرفض أي طلب حتى منزله لا يذهب إليه بعد عصر الجمعة.. وكنت خبيرا بالشيخ فجئت وهمست في أذنه، أنني اشتريت كتبا نادرة وأستأذنك في إيصالها إلى المنزل، فقام معي إلى السيارة ليرى الكتب، وأخذها واحدا واحدا، وأنا وزملائي نتمالك أنفسنا من الضحك، ونتعجب من حب الشيخ الكبير للكتب، وهو يعد مرجعا في المخطوطات والكتب النادرة. • وما طبيعة علاقتك بالشيخ العلامة عبدالرحمن البراك؟ الشيخ البراك بدأت الطلب عنده عام 1412ه، وكنا في السنة المنهجية للماجستير، ونحن مجموعة، ثم استمررت أقرأ عليه في منزله وفي المسجد أحيانا، وكان يحفظه الله غيورا على قضايا الأمة، وكان يسألني دائما عن الأخبار والأحوال المستجدة، وأذكر أنني كنت أقرأ عليه من كتب بعض المنحرفين فكريا ويعلق عليها، واستفدت منه كثيرا، ومما يميز الشيخ البراك التواضع، فقد كان يكره أن يرفع من منزلته أو يبجل، ومرة اعتذرت عن عدم حضوري الدرس فغضب وقال: “لا تعتذر ما حصل إلا خير؛ كل له عذر”. • لو سألناك عن أكثر المواقف تأثيرا عليك ووقعا في نفسك؟ الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى كان من أكثر الناس تأثيرا على طلبة العلم في السعودية وخارجها، وأذكر عندما كنا نحضر دروسه، وكأن الملائكة تظللنا من السكينة والطمأنينة التي تغشانا في المسجد، وأذكر من المواقف أن الشيخ عبدالعزيز الراجحي، وهو من أكبر طلاب الشيخ عمرا ومكانة لديه (أشرف عليَّ في الماجستير والدكتوراه) لما اتصل به الإخوة يبلغونه بوفاة الشيخ أغلق الهاتف، وقال اتركوا عنكم الشائعات؛ من هول صدمة وفاته عليه، وما زلت أذكر يوم جنازة الشيخ فقد كانت نادرة من كثرة الحضور من جميع أنحاء السعودية، وقد اكتظ الحرم ولم أر في حياتي منظرا مثل ذلك المنظر، حتى إن الخطوط السعودية كانت تركب كل الحضور في الذهاب والعودة مع كثرة الضغط من دون النظر للتذاكر وكارت الصعود. ومن المواقف التي أثرت فيّ كثيرا، وقد خطبت خطبة منشورة في الإنترنت، لما توفي الشيخ المجاهد أحمد ياسين فقد تأثرت كثيرا حتى أنني لما كنت أدرّس الطلاب في كلية الشريعة بكيت في ذلك اليوم، ولم أتمالك نفسي؛ لأن الشيخ أحمد كان مقعدا ولا يتحرك منه إلا رأسه، وضرب أروع الأمثلة في الجهاد ومقاومة الظلم والاعتداء. ونحن في معترك الحياة هذه لم نواجه ما واجه الشيخ مع صحتنا وعافيتنا والنعمة التي نعيشها، فهو أعطانا درسا في النشاط والبذل لهذا الدين والصبر والمصابرة رحمه الله رحمة واسعة. • ذكرياتك مع رمضان كيف تسردها؟ أجمل ما في رمضان العبادة والانقطاع عن مشاغل الدنيا، وبخاصة مجاورة الحرمين وصفاء القلب وراحة البال وتهذيب النفس، وقد مرت سنوات، كان شهر رمضان في فصل الشتاء، وكنا في نعمة عظيمة وفرَّط فيها بعض الناس، والآن ولله الحمد مع أنه في الصيف إلا أننا مع وسائل الترفيه الحديثة لا نشعر بأي تعب، لكن على الإنسان أن يستغل الفرص والنشاط والصحة، فإنه لا يدري ما يعرض له، وأعظم ما في رمضان أنه يكسر الحواجز النفسية عند كثير من الناس الذين يتوهم بعضهم أنه لا يستطيع أن يصوم النوافل أو يختم القرآن أو يقوم الليل، فرمضان يهدم كل هذه الأوهام، ويجعل الإنسان يعيش الحياة الحقيقية مع الطاعة والبعد عن المعصية ومجاهدة النفس. • كلمة أخيرة؟ أقول لكم معشر الإعلاميين والصحافيين اتقوا الله فيما تكتبونه للناس، فكل إنسان محاسب على ما يقول ويكتب، وكذلك أوصي القراء أن يغتنموا الشهر الكريم بالتوبة والرجوع إلى الله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.