في شهر نوفمبر الجاري، احتفل حزب "العدالة والتنمية" بقيادة رئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان، بميلاده السياسي بمرور ثمان سنوات على تسلمه "قيادة تركيا الجديدة"، التي أعادت توازنها وتحالفاتها الخارجية خاصة مع "الجوار العربي الإقليمي"، وفي المقدمة السعودية ومصر وسورية، وملفات الشرق الأوسط بشكل عمومي. استطاع "العثمانيون الجدد" كما يصفهم المراقبون للحالة التركية الراهنة "العدالة والتنمية" إعادة صياغة الرؤية السياسية الخارجية لأنقرة مع ملف من أعقد الملفات حساسية وهو "الشرق الأوسط"، خاصة بعد حالة "البرود السياسي" للحكومات التركية المتعاقبة في التعامل مع دول الشرق العربي وقضاياهم المصيرية " كالقضية الفلسطينية"، بالإضافة إلى أنها لم تر في العرب عمقا استراتيجيا للدولة التركية الأتاتوركية، في حين كان الهم التركي الأول سابقاً هو الانضمام "للاتحاد الأوروبي"، إلا أن الحزب "الليبرو إسلامي" كما يطلق عليه الكثيرون، أعاد صياغة الأمن القومي التركي الخارجي بنظرة مختلفة عن سابقيه فيما يتعلق بالتحالفات التركية مع أوروبا والولايات المتحدة الأميركية، والنظرة المزدوجة لملفات الشرق الأوسط والملف النووي الإيراني، وكذا الملف العراقي، والقضية المركزية الفلسطينية . حزب كاد أن "يموت" وبالرغم من حالة المخاض العسير في تشكيل الحزب، الذي كاد يعلن موت الحياة السياسية لرئيس الوزراء الحالي إردوغان وحزبه الذي اتهم بأنه "يريد أسلمة تركيا العلمانية" ، إلا أن الحزب نجح في تجاوز هذه الأزمة الخانقة، ليقود تركيا بعد انتخابات نوفمبر 2002، لثمان سنوات محققاً نجاحات على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، لتصنع توازناً دولياً لتركيا الجديدة، في السيمفونية الخارجية لأنقرة. يأتي تشكيل حزب العدالة والتنمية من قبل النواب المنشقين من حزب الفضيلة الإسلامي الذي تم حله بقرار صدر من محكمة الدستور التركية في 22 يونيو 2001، وكانوا يمثلون جناح المجددين في حزب الفضيلة، وقد شكل الحزب في 14 أغسطس 2001، بقيادة طيب إردوغان عمدة إسطنبول السابق وأحد البارزين في الحركة السياسية الإسلامية في تركيا أول زعيم للحزب، ليكون الثالث والتسعين بعد المئة ضمن الأحزاب السياسية التي دخلت الحياة السياسية التركية. التحركات الخارجية أعاد العدالة والتنمية صياغة سياسة تركيا الخارجية بعد تمكنه من السلطة في نوفمبر 2002، بأغلبية برلمانية في مجلس الشعب التركي، بما جعل منطقة الشرق الأوسط على رأس قائمة أولويات تحركات تركيا الخارجية، التي أضحت أكثر ديناميكية وكثافة وتفاعلا مع الأحداث الإقليمية على مسرح عمليات المنطقة. وقد كان الاهتمام الكبير الذي أولته الدبلوماسية التركية للانخراط في تفاعلات الشرق الأوسط دافعا لعدد كبير من الأدبيات والتحليلات لإطلاق تسمية "العثمانية الجديدة" على تلك التحركات المكثفة، وقد استند في ذلك إلى مؤشرات، منها مستوى وحجم العلاقات التي باتت تربط تركيا بعدد من دول الشرق الأوسط، فضلا عن المساحات الشاسعة التي غدت تحتلها قضايا المنطقة في الأخبار ووسائل الإعلام التركية، هذا بالإضافة إلى تزايد وتيرة وطبيعة الاهتمام الشعبي بهذه المنطقة، على نحو جعل تركيا على الدوام بالقرب من أحداث المنطقة، بل مشاركة في أغلب تفاعلاتها، إن لم تكن هي مركز هذه التفاعلات. الجغرافيا والسياسة اعتبرت دراسة حديثة صادرة عن مركز الجزيرة للدراسات حملت عنوان ( تركيا بين تحديات الداخل ورهانات الخارج ) أن تركيا تقع في النطاق الجغرافي الذي يطلق عليه "أوروآسيا"، وهى بذلك تعتبر المنطقة الوسطية المتحكمة في "قلب العالم"، الأمر الذي أهلها لأن تكون دولة محورية في المجال الجيو-سياسي، حيث تشكل منطقة الأناضول ما نسبته 97% من مساحة تركيا، فيما يمثل الجزء الأوروبي من تركيا زهاء 3%. ويزيد من أهمية موقع تركيا أنها دولة قارية وبحرية أيضا، وهي ميزة تجعلها محورا إستراتيجيا في حركة النقل البحري وأمن الطاقة العالمي، حيث إنها تتحكم في ممرين عالميين على درجة عالية من الأهمية الإستراتيجية، وهما مضيق البوسفور، ومضيق الدردنيل. وساهم موقع تركيا الجغرافي الإستراتيجي في تشكيل رؤية وزير خارجيتها الحالي ومنظرها أحمد داود أوغلو (كسينجر تركيا)، كما يوصف به من قبل المحللين السياسيين، لطبيعة السياسة الخارجية التركية، ولما يجب أن تكون عليه، حيث رأى أن تركيا يجب أن تتبع سياسة تحمل توجها حيويا متعدد الأبعاد، إزاء الأقاليم الجغرافية التي تتواجد فيها أو إزاء الأقاليم التي تحتل موقع الصدارة بالنسبة للمصالح التركية الحيوية، وذلك انطلاقا من قناعة مؤداها أن أنقرة من الناحية الجغرافية تشغل حيزا فريدا، فهي دولة كبيرة تمتد إلى الفضاء الأفريقي والأوروآسيوي، بما يجعلها دولة مركزية ذات انتماءات إقليمية متعددة مثلها مثل كل من روسيا وألمانيا وإيران ومصر. التنوع الإثني السياسي تتميز تركيا بتنوع عرقي وإثني، وعلى الرغم من أن هذا التنوع كان أحد العناصر الرئيسية في بعض مظاهر عدم الاستقرار الذي عانت منه خلال فترات طويلة بسبب المواجهات المسلحة التي اندلعت مع حزب العمال الكردستاني، وهو ما كان سببا لتوتر وتأزيم علاقات تركيا مع جوارها الجغرافي سواء إيران أو العراق أو سورية، وذلك بفعل سياسات هذه الدول إزاء الحزب العمال الكردستاني، كجزء من إدارة الصراع الإقليمي حول النفوذ والتحالفات الإقليمية. بيد أن وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة قد أحدث تحولات جمة على الرؤية التركية الخاصة بكيفية تجاوز الإشكاليات الداخلية الخاصة بوضع الأكراد والعلويين، كما أنه عمل على إيجاد نوع من التنسيق المشترك بين كل من سورية وإيران من أجل مواجهة التطلعات الانفصالية لبعض القوى الكردية المسلحة، وهو الأمر الذي ساهم عطفا على ذلك في دعم التنسيق والتعاون الأمني والسياسي والمخابراتي بين تركيا وجوارها الجغرافي إزاء بعض القضايا الإقليمية، انطلاقا من الثقة التي تمخضت عن التعاون في القضايا الإقليمية ذات الامتدادات الداخلية في تركيا وجوارها الجغرافي. مد العلاقات الإقليمية ووفقاً للكاتب التركي بولنت أراس ، الذي أصدر كتاباً في 2009، عن السياسة الخارجية التركية قال فيه: "إن تركيا طورت سياساتها الخارجية على نحو كبير، من خلال مد العلاقات مع مختلف القوى الإقليمية، بل وأكثر من ذلك فقد استطاعت بالفعل تطبيق رؤية أن تكون "دولة مركزية"، وليست "دولة تابعة"، وبالتالي فإن كل ما يجري في المنطقة يهم تركيا، باعتبارها دولة لديها القدرة على توفير الأمن والاستقرار ليس لنفسها وحسب، بل للمحيط الإقليمي الذي توجد فيه أيضا". التنسيق مع القاهرة والرياض وفي تعليق إلى "الوطن" مع رئيس الجمعية الثقافية التركية العربية الدكتور محمد العادل اعتبر أن هناك قبولا من كل من مصر والسعودية بالدور التركي الجديد، ذلك أنه جاء بالتنسيق مع الدولتين "مصر والسعودية"، ولم يحاول أن ينتقص من دورهما الإقليميين، بل إن السعودية كانت دائما محطة رئيسية على جدول زيارات المسؤولين الأتراك عالية المستوى إلى دول المنطقة، بما عكس اهتماما تركيا بمنطقة الخليج برمتها، باعتبارها منطقة مصالح إستراتيجية كبرى بالنسبة للأتراك. ملف الشرق الأوسط على الرغم من سيادة اتجاه لدى الأوساط العلمانية التركية ينادي بضرورة عدم الانغماس في "مستنقع الشرق الأوسط"، ذلك أن الجهد التركي غير مشكور عربيا وغير معني أوروبيا وأميركيا، غير أن الأحداث على أرض الواقع، أشارت إلى أن الأوساط التركية المختلفة بما فيها العسكرية بدأت تثمن ما فعلته حكومة حزب العدالة والتنمية خلال السنوات الماضية. وقد ساهم ذلك في تدعيم توجهات السياسة الخارجية التركية الساعية، إلى أن تغدو تركيا قوة إقليمية لها حضور في مختلف الملفات الإقليمية، وهي في ذلك استندت إلى عدد من العناصر الموضوعية التي تتعلق بالقدرات والمؤهلات الذاتية، فضلا عن القبول الذي تحظى به لدى أغلب القوى الرئيسية في منطقة الشرق الأوسط، وذلك على الرغم من أن هذا الدور كثيرا ما سبب لتركيا العديد من المشكلات، لاسيما موقفها من العدوان الإسرائيلي على غزة (عملية الرصاص المصبوب)، حيث كان السبب فيما واجهته تركيا من انتقادات من قبل بعض القوى ووسائل الإعلام الغربية المساندة لإسرائيل، فضلا عن أنه تسبب في إلغاء الزيارة الوداعية التي كان من المقرر أن تقوم بها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة كونداليزا رايس إلى تركيا وفقاً لدراسة نشرتها مجلة مختارات إسرائيلية في فبراير 2010 عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية. ومع ذلك، يمكن القول إن الدور التركي إزاء قضايا الشرق الأوسط الرئيسية قد تأسس على ثلاثة عناصر أساسية هي الحاجة العربية، إضافة إلى إدراك تركيا بأن مستقبلها ومصالحها الحيوية تقع لدى جوارها، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط، هذا فضلا عن أنه بات لدى تركيا كما الدول العربية مسؤولية التعامل مع الإرث الثقيل لما يشبه الترتيبات الغربية في المنطقة في مرحلة ما بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001. دولة السلام وقد بنت تركيا إستراتيجيتها خلال السنوات الماضية على أن تغدو دولة سلام واستقرار إقليمي في الشرق الأوسط، لذلك فقد تحركت في كافة أرجاء المنطقة من أجل إنهاء أو تهدئة الصراعات. ولأن الصراع العربي الإسرائيلي هو الصراع المركزي في منطقة الشرق الأوسط، كانت الخطوات التركية تتواصل إلى كافة أحداث هذه المنطقة. وعلى الرغم من ذلك جاءت النتيجة أن الأتراك لم يحققوا بالفعل نتائج ملموسة بشأن إنهاء أو تهدئة هذا الصراع، يعود ذلك ليس لأنهم لم يبذلوا جهدا معتبرا، وإنما لأن الإسرائيليين - الطرف الآخر لهذا الصراع - لم يعطوا الوسيط التركي التقدير المنتظر، وذلك وفق الرؤية التركية . وقد شهدت العلاقات التركية الإسرائيلية توترات شديدة بين الحين والآخر، كان آخرها التوتر الحاصل بسبب قيام إسرائيل باقتحام سفن قافلة الحرة في المياه الدولية وقتل زهاء 9 نشطاء أتراك وجرح 45 آخرين، مما دفع الحكومة التركية إلى تجميد كافة الاتفاقات العسكرية والاقتصادية بين البلدين والتهديد بقطع العلاقات الدبلوماسية ما لم تستجب إسرائيل للمطالب التركية الخاصة بتشكيل لجنة تحقيق دولية محايدة في الحادث والاعتذار ودفع تعويضات ضخمة لأهالي ضحايا الاعتداء الإسرائيلي على السفن التركية. وبينما كانت حلقات التوتر تتوالى على مسار العلاقات التركية الإسرائيلية، كانت العلاقات التركية العربية تشهد تطورات إيجابية عديدة، وواحدة من أكثر الدول التي استفادت من توتر العلاقات التركية مع إسرائيل ومن "قوة تركيا الناعمة" الجديدة في المنطقة كانت سورية، التي أوضحت للعالم أنها ليست المسؤولة عن فشل المفاوضات، وإنما إسرائيل.