في محاضرته بمنتدى سيهات الثقافي الأسبوع الماضي التي حملت عنوان (فورة الجدل وضرورات التسامح)، أكد الكاتب محمد العصيمي أن تناول هذا الموضوع المهم يعود إلى ما تشهده الساحة العربية خاصة بعد ثورات الربيع العربي، من جدل كبير حيال الكثير من الثوابت والمسائل وشؤون الحياة العربية برمتها، وما تشهده المملكة أيضا في حاضرها، وربما منذ سنوات، من مجادلات حامية الوطيس تجاه الكثير من القضايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية المسكوت عنها، التي يقول: إن من أطلق عقالها هي وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام الجديد لا سيما «تويتر»، وقال العصيمي: إذا اتفقنا على أن هناك جدلا على المستويين العربي والمحلي غير مسبوق في حاضرنا، فلابد أن نبحث عن طرق التسامح أو ضروراته أو فرائضه الغائبة، خاصة أننا نشهد شبه غياب إن لم أقل غيابا كاملا لهذه الضرورات أو هذه الفرائض. وفي مطلع المحاضرة لفت المحاضر إلى أن الجدل ليس آفة أو مثلمة أو بدعة، بل هو مطلوب ومحترم، كطريقة تعبير في تراثنا، وقال: إنه على سبيل التمثيل وليس الحصر فقد وردت مادة ( جدل ) في سياقات محمودة لا ذم فيها ولا غضاضة ولا تثريب، في قوله تعالى: «فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب «، وقوله تعالى : «وجادلهم بالتي هي أحسن»، وقوله تعالى : «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن» .. وبعد ذكر أدلة أخرى من التراث العربي أشار العصيمي إلى أن الجدل مشروع، بل ومحمود متى خضع للضوابط وسعى إلى تحقيق المصلحة وتجنب المُجادل التربص والنكاية، وهو مذموم متى قصد به الانتصار على حساب الآخر بغض النظر عن الحقائق والبراهين التي يطرحها هذا الآخر المختلف عقيدة أو مذهبا أو عرقا أو ثقافة. أما التسامح - كما ذكر في المحاضرة - فيكتسب مفاهيم ومعاني طرحها كثير من علماء الاجتماع والفلاسفة، قديما وحديثا، وهي لا تكاد تختلف بين دارس أو مفكر وآخر، وهذا يدل على أن النظرة الإنسانية إلى قيمة التسامح واحدة، ولا يحدث الاختلاف حولها إلا تعسفا أو مكابرة أو تعمدا للخداع والمراوغة من أجل تبرير الاعتداء على حقوق الآخرين لتحقيق مكاسب للمعتدي على هذه الحقوق، وبعد تقديمه شرحا مسهبا لمفهومي الجدل والتسامح قال العصيمي: أعتقد أننا يجب أن نتعامل مع (الجدل) باعتباره مشروعا وأن نتعامل مع (التسامح) باعتباره مطلوبا وأنه لا مفر إذا من أن نصوب منطلقاتنا وخطانا هنا في المملكة إلى نقاط الالتقاء التي تقربنا كفئات وطوائف وتيارات وتبلور المشترك فيما بيننا بدلا مما هو حاصل الآن، مع فورة الجدل السائدة، من ظواهر وممارسات، وقد أقول محاولات لتهديم هذا المشترك، وعدد الكاتب العصيمي في محاضرته أسباب غياب ضرورات التسامح التي حصرها في ستة أسباب هي: اليقين باحتكار الحقيقة، وهذه - كما قال - آفة معاصرة يمارسها بعض المنتسبين لأهل العلم كما يمارسها العوام الذين تعلموها منهم أو تربوا عليها، والتعصب، الذي اعتبره ناتجا عن اليقين باحتكار الحقيقة وهو العدو اللدود والتاريخي للتسامح الذي ألقى بنا في عصور سالفة ويلقي بنا الآن إلى تهلكة العنف اللفظي والجسدي والاعتداء أو القتل على الهوية. أما السبب الثالث من أسباب غياب التسامح فهو كون المجتمع - أي مجتمع - لا يعلي قيمة الحرية باعتبارها قيمة إنسانية تتيح آفاقا أوسع للتدبر والتعبير الحر، ثم هناك الاستقواء الذي يولد الفوقية والاستعلاء على الآخرين، فأنت - كما قال العصيمي - حين تملك زمام السياسة أو رقبة المال أو العدة البشرية الأكثر أو الأغلب - وهذا على مستوى الأنطمة والشعوب - يتضاءل عندك الشعور بحق الآخر في الاختيار الحر لمعتقده أو قناعاته ويتآكل شيئا فشيئا ما بينكما من (المشترك) لحساب الإلغاء والتصنيف الذي ينتهي إلى قاعدة بوش الشهيرة : من ليس معنا فهو ضدنا، وأخيرا فإن من أسباب غياب التسامح شيوع الجهل المضاد للمعرفة في المجتمع، على اعتبار أن التسامح - كقيمة - مقرون بمستوى التعلم والمعرفة التي تمكن الفرد من الاطلاع والقدرة على المقارنة بين الآراء واتخاذ الموقف العقلاني الصحيح تجاه هذه القضية أو تلك. وفي ختام المحاضرة واشتقاقا من ضوابط الجدل المحمود التي ذكرها وضع العصيمي جملة معطيات أو شروط لإشاعة ثقافة التسامح وهي: اعتبار الجدل المحمود أو الحوار جزءا أصيلا من ثقافتنا وليس دخيلا علينا من ثقافات أخرى، والإيمان والإقرار بالتعدد والتنوع بين البشر، والقناعة الصادقة بأن الاختلاف رحمة، بل هو ضرورة كونية وإنسانية لا تستقيم الحياة بدونها، وحمل العلماء والدعاة والوعاظ دورا مهما في شروط إشاعة ثقافة التسامح حيث طالبهم، فهم - كما قال - بمريديهم وجماهيرهم سيختصرون طريقا طويلة في توعية الناس بضرورات التسامح، وكذلك لابد من صد العنف اللفظي والفكري والجسدي من خلال قوانين تجرم هذا العنف وتجرم الطائفية والقذف والسب والشتم، والنقطة الأخيرة تختص بمطالبة المحاضر بتأسيس أدب الحوار من خلال عمل حقيقي جاد تشترك فيه مؤسسات التربية والتعليم والأسرة ومؤسسات المجتمع على اختلافها من منتديات وأندية وملتقيات شبابية وصيفية وغيرها.