بدأ يراوغ ويدور ويتلكأ في مغادرة المكان، فعزم صاحب الدعوة على أن يستخدم كل الطرق الممكنة لديه لمتابعته والقضاء عليه. تلك كانت قصة ضيف ثقيل على المجموعة التي اجتمعت في نزهة لقضاء وقت ممتع، وتناول شيء من الطعام الذي جرى إعداده بحضور ذلك الضيف الفضولي ومضايقته لهم أثناء الإعداد. تلكم هي قصة ذباب أزعج الرجل الذي كان يستمتع بالطبخ في تلك النزهة وإعداد الطعام، لكن ذلك الضيف الصغير لم يتركه يكمل تركيزه على المقادير، وإعطاء كل مرحلة حقها من العناية والمتابعة، لئلا تؤدي إلى فساد الطبخة برمتها. لكن محاولات الإبعاد والملاحقة طالت وجعلت صاحبنا يتوتر، ويشتم تلك الحشرة المسكينة التي كانت قد استبشرت خيراً عندما أدركت أن بقربها طعاماً يمكن أن يكفيها عناء البحث عنه في ذلك اليوم. وعندما بلغ به التوتر مبلغاً، بدأ يلمح إلى أنه غير مسؤول إن كان مستوى الطبخ سيتأثر جراء الإهمال الجزئي للمتابعة، والتباعد بين مراحل التحريك والإضافات. وأخيراً تمكن من القضاء على ذلك الضيف المسكين، الذي كان يؤمل النفس بوجبة دسمة، حتى لو كانت من على رؤوس السكاكين ومغرفة الطعام. لكن حكاية صاحبنا لم تنته بقضائه على ضيفه المزعج؛ فقد بدأت معركة كلامية بينه وبين عدد من الحضور. فقد بادره أحدهم بالقول: أنت في الواقع - ونحن جميعاً - من أتى إلى منطقته البرية هذه، ولم يأت هو إلينا في منازلنا. فلماذا تغضب منه وتتوتر من وجوده في فضائه العام؟ وأضاف شخص ثانٍ: يا أخي لماذا لا تحترم الآخر؟ هذا بالنسبة لك - حتى وإن كان ضعيفاً أو من جنس آخر - فإن له حقوقاً في الحياة، وكسب قوت يومه! كما بادره شخص ثالث: تستقوي على من هو أضعف منك؟ تصور أن أحداً يهددك، ويحاول أن يزيلك من الحياة لأنه لا يرغب في وجودك! ما هكذا الدنيا تسير، فحقوق الناس والكائنات جميعاً محفوظة، حتى وإن لم تعجبنا أو نظن بأنها من فضلات الوجود! وقال غيره: لو كان قد أتاك في منزلك، لكان لك الحق في إبعاده، وليس بالضرورة قتله، لكنه الآن في فضاء عام تشترك فيه الكائنات الأخرى مع الإنسان! ضاق صاحبنا بملاحظات الرفاق - دون أن يدرك أن بعضها كان تهكمياً - وعلّق عليها: الحقّ علي، لو خليته يلوث طعامكم، لكان الأمر أصلح بالنسبة إليكم. لكني لا أقبل طعاماً يقع عليه الذباب! وبعد تناول الطعام، والجلوس للمسامرة وتناول بعض المشروبات، عاد الحديث مرة أخرى إلى موضوع الضيف (المرحوم)، فأعاد شخص طرحه بصيغة أخرى: يا أخي تصور أن حالته تشبه حالة المهاجرين من بلدان الحروب، الذين يبحثون عن مصدر رزق ومأوى لدى بلدان فيها خيرات وأمان. فهل ترضى بأن ينظر الأوربيون - على سبيل المثال - إلى المهاجرين الذين يأتونهم من مناطقنا، بأنهم الآخر الكريه، ويرفضون استقبالهم، حتى لو لم يسعوا إلى إبادتهم - كما فعلتَ بهذا الآخر الصغير؟ وتشعبت الحكايات من المقارنة إلى صنع المفارقات المضحكة بين الحالة المباشرة وحالات الهجرة المتخيلة. وأخيراً سايرهم صاحبنا بالترحم على ضحيته المسكين (الآخر الصغير)، وقال: دونكم صاحبكم الفقيد، فهو تحت تلك الشجيرة، لتتولوا دفنه وتأبينه! ولا تنسوا أن تدعوا أقاربه وأصدقاءه لحضور حفل التأبين!