صاحبة الرواية التي تنقلها السطور أدناه سيّدة وُلدت في 1925. تنتمي الى طبقة وسطى في قرية أرثوذكسية من قضاء عكّار في شمال لبنان، تجاور قريتَها قرى مسلمة سنية وأخرى مارونية. حين توفي جدي في 1940 وكنت في الخامسة عشرة، طبخت وليمة ضخمة للأهل والمُعزّين. الكل استغربوا يومها. لكن أمي، قبل ثلاثة أعوام على ذاك التاريخ، أعطتني كتلة لحم وقالت لي: رقّقيها كي نصنع منها كبّة. ثم مضت تزجّ بي في شواغل كهذه. في البدايات استغرقت المهمة ساعات طوالاً، خصوصاً متى كانت الكبّة المقصودة مكبكبة. الا اني بالمراس تعلمت. ولأني كنت أكبر أخوتي وأخواتي، اضطُررت أن أتعلم. صحيح أنني انتقلت الى المدرسة الداخلية حين كنت في الحادية عشرة، حيث بقيت أكثر من ثلاث سنوات. الا ان مطالبة الفتاة بتعلّم الطبخ تقدّم على مطالبتها بتعلّم العلم. وفي أي حال، أخرجني أهلي من "مدرسة الأميركان" في طرابلس أواخر الثلاثينات، حين تم دمج فرعي الصبيان والبنات فصارت مدرسة مختلطة واحدة. هكذا انحصر اهتمامي كله بالبيت كأني أمٌ ثانية لأخوتي الصغار. قبلاً، لم نكن أنا ورفيقاتي في الصف نتكلم في الطبخ والمآكل. غير أن الفتاة التي يدفع أهلها قسطها المدرسي كاملاً كلّفتها المدرسة ترتيب الطاولة، على عكس اللواتي يدفع أهلهن نصف القسط ممن كُلّفن التنظيف والجلي. وهذا ربما قرّبني من هذا العالم فرحت أصول فيه وأجول حين تمرض أمي إذ أتولى المطبخ بمفردي. وقد تعوّدنا، في بيتنا، أن نحضر جميعاً في الثانية عشرة كي نتغدّى. والثانية عشرة بالتمام بدت إلزاماً يشبه الانضباط العسكري. فكان ينبغي، إذاً، الانتهاء من تجهيز الغداء قبل هذا الوقت كائنةً ما كانت الموانع. وكنا نجلس على طاولة منخفضة لأن أخوتي الصغار لا يطالون الطعام متى وُضع على مكان أعلى. أما الطاولة نفسها فكانت مستديرة، وليس لها، بالتالي، رأس محفوظ لربّ الأسرة. نعم، لم توجد مواقع ثابتة في الجلوس، ولم يكن طقساً من طقوسنا أن يكون الوالد او الوالدة أول البادئين بالأكل. كان أبي يسكب الطعام لنفسه فيما أمي تصبّه لنا ولها بعد أن نصلّب، نحن الثلاثة، أيدينا ونسمّي إسم الله. وفي هذه الغضون كان الأخوة الصغار يُتركون في حلّ من التصليب والتسمية. أما من أنهى أكله فغادر فوراً من دون أن ينتظر انتهاء الأكبر سناً. * * * في طعامنا لم تكن السَلَطة مادة ثابتة، مع أننا تناولنا بكثرة سَلَطاتٍ كالخيار باللبن وسلطة الملفوف أو الخس والبندورة. فالمجدّرة، مثلاً، رافقت سلطة البندورة والخيار والبصل. ومع شرائح اللحم والبطاطا أُكلت سلطة الملفوف او الخسّ، مرةً مُنَكّهةً بالخلّ ومرةً بالحامض. وكنا، حين نصنعها، نتناولها مع الوجبة الرئيسية في صحن واحد، فلا نقدّم أيةً من الاثنتين على الأخرى. والبصل والثوم كانا مما لا بد منه. الكل يأكلونهما ومعظمهم يزرعونهما، وليس ثمة من يتحاشى رائحتهما أو يأنف منها. لا بل درج بعض الشغّيلة على لفّ الخبز حول البصل وجعل "كدّوشهم"، أو سندويشهم، فطوراً صباحياً. كذلك أكل أهل القرية البهارات والفليفلة، تاركين للأفقر حالاً أن يُكثروا منها. وعُدّ الإفراط في استخدام خبز الذُرة واحدة أخرى من علامات الفقر، لا ينافسه في هذه الهويّة الا السليق والبطاطا. وفي المقابل قلّ اللبن نسبياً، فلم يُدخله من الفلاحين الى وجباتهم الا الذين امتلكوا أبقاراً. لكن الهمّ الطاغي على الفلاحين ظل تأمين الموسم من زيت وطحين وبرغل. والوجبات الرئيسية عماداها، بطبيعة الحال، اللحم والدجاج. هذا لمتوسطي الحال ممن كانوا يتناولونها مطبوخةً بسمن بقري حقيقي يُذيبه أهل البيت في بيتهم. فالسمن لا بد منه في مآكل الثلثاء والخميس والسبت والأحد، وفي الأربعاء والجمعة تؤكَل وجبات بالزيت، وبزيت الزيتون حصراً، إذ لم تكن الزيوت الأخرى معروفة. ذاك أن الروم الأرثوذكس اعتبروا اليومين هذين للصيام. ولئن شاركهم الموارنة الاعتبار هذا الا أن كنيستهم أحلّتهم من التزامه الصارم. وكانت الكبّة خير ما أنتجه اللحم، ولا تزال: فهي وجبة معظم القرية يوم السبت، يأكلون منها ما يأكلون ويتركون الباقي لليوم الثاني. فالأحد نهار للصلاة، أو هكذا يُفترض، كما انه للزيارات، وينبغي للبيوت أن توفّر ما يليق بالزوّار. ومثل البداهة صحب الخبز الطعام. وهو إن لم يكن من الذرة فمن القمح الذي كنا نغربله في موسمه، أواسط الصيف، فننقّيه مما علق به من تراب وزؤان وخلافهما. وبالفعل سطا الخبز علينا، فإذا سقط شيء منه على الأرض لُمّ وقُبّل ومُسّ به الجبين احتراماً يقارب التقديس. أما التقديس، من دون تحوير أو مداورة، فحصة القربان الرامز الى جسد المسيح. فهذا كان يُصنع في البيوت إبّان أعياد القديسين ومناسبات الوفاة، ثم يُرسل الى الكنائس كي يقدّم في القداديس. وقد ساد يومها نَخْل قمح القربان عدة مرات بمنخل حرير أصلي من دود القز. والآن باتوا يخلطونه بالمَحلَب، وأحياناً بماء الزهر. وهذا غير جائز، دينياً، في المُقدّس. وكنا، كذلك، نغربل البرغل فنغسله ونسلقه بحَلاّت كبيرة على الحطب، ثم نودعه صندوقاً خشبياً لتصفيته من الماء. وكنا نملأه، بعد ذاك، بأكياس ونمدّه على السطح، ونروح نحرّكه يومياً أربع مرات أو خمساً بأقدامنا، بعد أن نكون غسلناها جيداً، وقبل أن نرسله الى المطحنة ليُطحن. وشغلُ البرغل كان الأقسى على المرأة. ففي تحريكنا له، خططناه تخطيطاً: في العاشرة صباحاً طولياً وفي الثانية بعد الظهر عرضياً. وعلى هذا النحو مضينا فلا ينتهي النهار الا وأقدامنا مدمّاة أو متورّمة. وحدهن النساء فعلن هذا. وكنت أفعله وأنا صغيرة حين تمرض أمي. ذاك أن الأم لم تثق بغير بنتها في النيابة عنها بمهمة كهذه، لأن الأخريات ربما لم يغسلن أرجلهن جيداً. والمرأة هي وحدها مَن يعجن العجين وينقله محمولاً على رأسها الى التنّور حيث تتولاه الخبّازة فترقّه وتخبزه. الا ان الطبخ على عمومه كان من عذابات النساء. فهو استغرق وقتاً أطول بكثير، اذ كنا نطبخ على الفحم أو بابور الكاز، والبعض على الحطب. فالافتقار الى الغاز، الذي لم يدخل بيوتنا حتى اوائل الخمسينات، جعل تحضير الوجبة يستغرق قرابة خمس ساعات. وكان من أقسى المهمات على واحدتنا دق الكبّة بالجرن الحجري، وهو ما بدأ يتراجع أوائل الستينات لتحل محله المولينكس. ففي الدقّ لا بدّ من القوة البدنية لامتداده على ثلاث ساعات متصلة. فكانت المرأة بعد أن تنعّم اللحم كثيراً تمعسه بالبرغل وتبقى تمعسه الى أن يتحدا تماماً. هكذا تستمر بمدقّتها التي تظل ترطّب رأسها بقليل من الماء الى أن تنتهي، فيُشرَع عندها برقّ الكبّة تمهيداً للشيّ أو القلي. * * * وبقي الزيتون الألصق بالطاولة كما لو أنه يمنح الحياة لخشبها. فبلا زيتون، أسود أو أخضر، لا يستقيم طعام. وقد أُكل الأخضر أكثر من الأسود لأنه يكلّف من الزيت ما لا يكلّفه الأخير. فلم يدرج حينذاك الكلام على ضرر ينجم عن الزيت، أو غيره من مواد الأكل، واقتصر الأمر على اشارات عابرة الى سوء هضم تسببت به هذه الوجبة او تلك لأنها كانت "ثقيلة". و"الثقل" هذا لم يمنع المضرور من معاودة أكلها، ولا كان يستدعي التبحّر في أسباب الضرر ودواعيه. لكنْ في الخمسينات بدأت نساءٌ يطبخن مآكل بعينها بالسمن وزيت الزيتون معاً تخفيفاً لها. وبعد ذاك، حلّت الزبدة، في الطبخ، محل السمن وزيتُ المازولا محل زيت الزيتون. وتربّع اللحم شيخاً للمآكل، يكتفي منه الأفقر حالاً بيوم السبت، أو أنهم لا يتناولونه بتاتاً. أما سرّ تفوقه على الدجاج فكونه يُشترى من السوق بينما يُربّى الثاني في بيوت لا تلبث أن تأكله بعد أن تستهلك بيضه. ومثل اللحم، كانت الدكاكين مصدر الأرزّ، فنمّ اشتمال المائدة عليه عن يُسر لا يشي به البرغل. والاثنان إنما وُضع واحدهما في مقابل الآخر، فنُظر الى البرغل بوصفه المادة البيتية المتوافرة والتي تدخل في طبخات عدة، فضلاً عن كونه الوجبة الممتازة لأيام الصيام. وهذه الصفات جميعاً جعلته في الوصف الشعبي "مسامير الرُكَب" لأنه، كما ظُنّ، يبثّ الحديد في مفاصل آكله ويمدّه بقدرة الصمود في يوم عمل مُنهِك. والفاكهة كانت تلي وجبات الطعام حكماً. وباستثناء الليمون الذي كان يؤتى به من طرابلس، اعتادت البيوت ان تزرع فاكهتها من خوخ وتفاح بأنواعهما الى إجاص وتين وعنب وغير ذلك. بيد أن الحلوى تراوحت بين البيت والسوق، فوُجدت حلويات منزلية، كالمعمول والغريّبة والبسيس بالجوز والتين بالسكّر والتين بالدبس والتين المهبّل والملبن والأرزّ بحليب والمهلبية والسمسمية، وطبعاً المربّيات على أنواعها. والكثير من هذه الحلويات ارتبط صنعه بمواسم معينة، لا سيما الأعياد الدينية. وكما هو واضح احتل التين، فضلاً عن الجوز، موقع القلب من معظمها، فكنا نغلي في العام 15 رطلاً من التين لمؤونتنا السنوية. والتين والجوز واللوز وفاكهة المربّيات هي دائماً من محاصيل البيت وأشيائه التلقائية. لكن دكاكين القرية كان يؤتى منها بالبسكويت الناشف والحلقوم الذي سمّيناه روح الحلقوم، وكنا نأكلهما معاً واضعين الأخير بين بسكويتتين، مُقلّدين السندويش ومُصغّرينه في آن. غير أن الشوكولا الذي تعرّفت اليه في طرابلس، لم يكن مما تحتويه بيوتنا ولا مما تبيعه الدكاكين المجاورة. ومع أننا جعلنا في أحيان قليلة نصنع البقلاوة في البيوت، ظلت مما يُشترى من المدينة، مثلها مثل الكنافة وحلاوة الجبن. وما قلل الطلب على الأصناف هذه غلاؤها النسبي، فضلاً عن مصاعب الوصول الى طرابلس. فهي، ولو لم نبعد عنها أكثر من أربعين كيلومتراً، كان بلوغها يستغرق نيفاً وثلاث ساعات، أي أربعة أضعاف الوقت الذي يلزم الآن. وفي الطريق اليها ندر اللقاء بسيارة في اي من الاتجاهين، واستحال التوقف طلباً لاستراحة أو تبضّع. وهذا على عكس بيروت حيث كنا، حين نقصدها، نتوقف في البترون لشرب الليموناضة، وفي نهر ابراهيم لتناول سندويش اللبنة المشهور، وأحياناً في البربارة طلباً لتينها الشهيّ. ومن تحصيل الحاصل أن يدور التسوّق الغذائي على ما لا يُزرع بيتياً. فوحده الذي امتلك بقرة كان لا يشتري سمنه، والأمر نفسه يصح في الجبن والقريش الذي يُشتقّ الشنكليش منه. فكانت هذه، فضلاً عن اللحم والعسل، أكثر ما يؤتى به من السوق. اما السمك، الذي دل دائماً على وجاهة ومكانة، فلم يُلحَظ له حضور في قرية بعيدة عن الساحل كقريتنا. كنا نشتريه مرة أو مرتين في السنة، لكننا أكْثَرنا من شراء السمك النهري الذي اندثر، أو كاد، في وقت لاحق. * * * وقريتنا، على العموم، عُرفت بطيب أكلها. فكانوا يسخون على طبخهم كأنْ يُكثروا اللحم في الكبّة مثلاً. وما مرد السخاء الا سعة الحال التي امتازت بها عن قرى مجاورة. فهجرة أبنائها المبكرة الى الأميركتين وأفريقيا وأستراليا، تليها الوظيفة وتملّك الأرض منذ أواخر العهد العثماني، أثمرتا مالاً اتجه بعضه الى تعليم الأبناء، وبعضه الى تحسين نوعية الحياة. وغالباً ما تحدثوا عن المهاجرين وماذا يفعلون وكيف يعيشون، وكانوا إذا صنّفوهم عدّوا المهاجر الى افريقيا محبوباً أكثر من المهاجرين الى باقي الأمكنة، لأنه ينفق في القرية اكثر مما يفعل الآخرون. وترجم اليسر عن نفسه في وجوه عدة. فظهرت نساء، ولو قليلات، يلبسن المعاطف، والمعطف كان للأغنياء وحدهم. وإبان طفولتي بدأ بعض البيوت يأتي بالخياط من طرابلس، أما اللواتي كن يخطن المعاطف في بيروت فظللن أقل من أصابع اليد الواحدة، خياطتهن هناك اعتُبرت حدثاً تتداوله القرية أياماً وتلوكه. وكانت مناسبات الزواج أغلب ما يدفع الى العاصمة وراء خياط او خياطة. فأمي، لدى زواجها، خاطت ثيابها عند "الطبّال" في بيروت، وكان موقعه في التباريس، ثم خاطت لي عنده ثوباً وأنا في الخامسة عشرة. وكان المألوف أكثر أن تقصد النساء "الأسمر" في طرابلس، فيما يقصد الرجال "الكركجي" و"طيسون" لخياطة بذلاتهم. لكن القرية عرفت أيضاً خياطين وخياطات للنساء كانت خالتي واحدة منهن. وفي الحرب العالمية الثانية درج انتزاع الصوف من الفراش وغزله ليصير خيطاناً ثم حياكته بالصنّارة على شكل كنزات. ودائماً صُنعت أغطية طاولات بالصنّارة ومواد أخرى بالمكوك، إما للاستخدام في البيت نفسه أو للبيع. ولا أظن ان ثياب يومنا هذا اختلفت كثيراً عن ثياب تلك الأيام. وطبعاً لم يختلف استخدام الكتّان والحرير والصوف والقطن بوصفها العناصر الأساسية للملبس. ما اختلف هو البذخ ودرجاته. حتى الحدود الأخلاقية للباس كانت رخوة ولم تتزمّت على النحو الذي توصف به راهناً. فحين كنت في العاشرة، لبستُ فساتين تظهر منها الركبة والظهر، وفي الخامسة عشرة غطّت الفساتين نصف الركبة لكن الزنود لم تُغطَّ. لا بل كانت بضعة فتيات يلبسن الديكولتيه مثيراتٍ لدى كبار السن امتعاضاً مضبوطاً، وأحياناً مداعِباً وفيه تودد. وأذكر أن جدتي كانت تقول عن زمنها إن المرأة لم تضع منديلاً على رأسها، وشالاً على كتفيها، الا عند زيارة قرية مسلمة أو التوجه الى طرابلس. لكن الرجل، أيضاً، كان متى يقصد طرابلس ينثر على كتفه عباءة حرير. ويجوز القول ان التغير طال الرجال كما طال النساء، وربما أكثر. فالفقراء منهم والأغنياء لبسوا الطرابيش في الثلاثينات والأربعينات، الا ان بعضهم القليل الأفقر حالاً لبسوا الشراويل ووضعوا اللبّادات على الرأس. وكان أبي ينام بقميص نوم أقرب الى الدشداشة إذ لم تكن البيجاما الرجالية قيد الاستخدام. كذلك حملت أكثريتهم السبحات المسابح، وساد اعتقاد واسع بالشوارب وأهمية مسكها، فالذي بلا شاربين كأنه ناقص الرجولة. وحتى من شاء التميّز عن أصحاب الشوارب المتروكة هكذا، أو ربما التعالي على عاميّتهم وشيوع مظهرهم، احتفظ بشاربين قصيرين. وانتشرت النرجيلة الأركيلة على أوسع نطاق. كثيرون، رجالاً ونساءً، كانوا يدخّنونها ويضيّفونها في منازلهم حتى كنت تجد، في كل بيت ميسور، أربع نراجيل أو خمساً. بعد ذاك، بعد الحرب الثانية، خفّ حضورها كثيراً لكن السيجارة زادت حضوراً. فمن أول وعيي كانت هناك. لكنهم كانوا يلفّون التُتُن بورقة الذرة الرخص، كما يثبّتون قطعة صوف صغيرة تُسمى "صوفانة" على حجر صغير يخبؤنه في جيوبهم ومعه قطعة حديد يقدحونها على الصوفانة. بهذه الطريقة ولّدوا من النار ما يكفي لإشعال سيجارة. والتتن كانوا يأتون به من سورية تهريباً فيما درجت "شركة الريجي" على تفتيش البيوت بحثاً عنه، هي التي كانت تبيع سجائر صناعية ك"غليظة". وبعد الحرب بدأ يتسرب الينا الدخان الأجنبي ك"لوكي سترايك" و"كاميل" ثم "الفايسروي" مما دخّنه المرتاحون مادياً دون سواهم. أما النساء، فالقويات منهن وحدهن دخنّ، فكان يقال تعريفاً بواحدة يتخلله الغمز: "فلانة تدخّن سيجارة". إذ، على عكس النرجيلة، لم تكن السيجارة مقبولة اجتماعياً، كما لم يدخن الشاب أمام أبويه الا متى استقل. وأحياناً كان يستقل ولا يدخن. واقتصرت ساعة اليد على الميسورين، لا سيما منهم المهاجرين متى عادوا. فأبي، مثلاً، جاء بساعة من أفريقيا وكان الشغّيلة يسألونه، خصوصاً في الشتاء والخريف حيث تلتبس علامات السماء، كم الساعة؟ وعلى ضوء جوابه، حددوا لحظة توقفهم عن العمل وانصرافهم، أو ما كانوا يسمّونه "الفكّة". وأمي، أمها أعطتها ساعة يد أعطتني اياها حين انتقلتُ الى مدرسة الأميركان، كما لو أنها تزوّدني مجوهرة كريمة. وبالطبع كانت ساعات الحائط أندر، لا تجدها الا في بيوتٍ وضعتْ لها قدماً في الثراء. * * * وعمّت، في القرية، النذور طلباً لأمر صعب ظُنّ أن القديسين وحدهم من يلبّيه. فكانت الناذرة تذهب حافية الى "كنيسة السيدة" التي تبعد سبعة كيلومترات أو أكثر عنا. وأحياناً كانت تحمل الى "السيدة"، وهي مريم العذراء، زيتاً أو زيتوناً أو أي شيء آخر من المؤونة. ووصل الأمر ببعضهن أن نذرن الصعود الى الدير في أعلى القرية، وحيث المقبرة، زحفاً على أيديهن وأرجلهن الحافية. وظلت صيدنايا في سورية الأكثر استقطاباً للنذور. فهي الكنيسة الأهم تبعاً لظهور العذراء فيها. وهذا ما دفع، أصلاً، الى اقامة الدير هناك. ومن صيدنايا، ومرة أو مرتين في العام، جاءت الى قريتنا راهبة تجمع تبرعات ومساعدات، فاعتادت أمي أن تقدّم لها زيتاً. وكان أبي يذهب كل أحدٍ الى الكنيسة، ومثله مثل سائر رجال القرية، سمّى الخوري "المحترم" واعتبره شخصاً مميزاً. والحال أن الجميع قبّلوا يده بمن فيهم كبار السن، بينما للمطران انحنوا أيضاً. وغطّت النسوة رؤوسهن في الكنيسة التي لم أُجبَر على التوجه اليها الا في الأعياد والمناسبات، كما لبسن، كلهن، أكماماً طويلة. لكن هذا لم يحل، وأنا في العاشرة، دون سقوط الغطاء عن رأس مُصلية مسنّة. وأذكر أن الخوري نهرها حينذاك قائلاً: غطّي، فأجابته بحدة: لماذا لا تنهر الصبيات الجميلات حين يتعرضن لشيء مماثل؟ وفي طفولتي، كان لا يزال شَبَك من حديد يفصل المصلين عن المصليات، وهو ما زال بعد حين. فالاختلاط لم يعد مستغرباً في الكنيسة ولا كان، بالطبع، مستبعداً في البيوت. فمتى حضر الى بيتنا رجل كي يسهر كنا جميعاً نشاركه السهر. بيد ان كلمة "سهرة" لم تكن دارجة، فيما السهرة الطويلة لم تتعدّ التاسعة حيث يطفئون الأنوار ويهرعون الى الأسرّة. وفي سمرهم ذاك، قد يلعبون "الكوشينا" و"الباصرة"، ومن يخسر "يشكّلونه"، أي يضعون على رأسه صحناً أو إبريقاً أو أي شيء مشابه. فإذا كان الخاسر فلاحاً وُجد من لا يتردد في تشكيله بحذاء. وفي أحيان أخرى، كان من لا يحالفه يُسأل أن يتلو بعضاً من سيرة عنترة أو الزير بينما يستمع الآخرون ويتحمسون. والمألوف ان الفقراء والفلاحين كانوا يسهرون في البيوت "المفتوحة" لمن هم أعلى كعباً. هناك يمكنهم أن يشربوا قهوة أو شاياً، اذ الميسورون كانوا وحدهم من يضيّف القهوة، ولو باقتصاد. والرائج، يومها، أن الشاي مشروب الأفقر فيما القهوة، التي تُطحن وتُحمّص في البيت نفسه، مشروب الأغنى. والخمر كان ثمة من يحتسيه. عمي، مثلاً، اعتاد ان يتناول كأس عرق في بيته بين فينة وأخرى. وكنا نقدّم عرقاً للضيف متى عرفنا انه ممن تستهويهم الكحول. لكنه لم يُرفق يومها بالثلج اذ لم نعرف البرّادات حينذاك، علماً بأن بعض مُحبي العرق شربوه قحّاً غير مخلوط بالماء، رغم توافر الماء! * * * ربما كانت الأعياد أكثر ما تغير. عيد الميلاد، مثلاً، اقتصر على قدّاس صباحي في الكنيسة. أما لليلة الميلاد، فكانت البيوت تصنع حلوى وتأكل جوزاً ومَلبناً، ولم تكن ثمة شجرة ميلاد مما عهدناه لاحقاً. لكنهم، قبيل الحرب الثانية، صاروا يطبخون حبشاً في ذاك العيد كما صرنا، في بيتنا، نربّي الحبش. وكانت الوجبة في عيد الفصيح، "العيد الكبير"، ضلعاً محشياً، أي ضلع خروف يُحشى لحمه بالصنوبر. غير ان متعة الفصح لم تكن طعامه بل "الهجمة" منتصف ليل السبت - الأحد، حيث الاستيقاظ الباكر في جو ربيعي لطيف والمكاسبة بالبيض التي يشترك فيها الكبار والصغار في ساحة الكنيسة. ولم يتخلل الميلاد، أو الأعياد الأخرى، تقديم هدايا ما خلا سطول الحليب واللبن التي يحملها فلاحون الى مالك الأرض أحياناً. وكان هؤلاء، في الفصح خصوصاً، يسوقون الخراف الى زعماء المنطقة، كما يسوقونها حين يريدون توظيف ابناء لهم في الجيش والدرك والادارة. والحق ان وضع الفلاحين كان بائساً جداً. فقد ظل العُشر يُنتزع منهم حتى أوائل الخمسينات. وكثيراً ما دار الهمس حول علاقات مشبوهة، غالبها قسري، بين نساء الفلاحين والمالكين، أكانوا من أبناء القرية أم من بكوات القرى المسلمة. وكانت أدوات الفلاحة البقرة والسكّة الحديد التي يصنعها حدّاد القرية. وقيل، كحكمة مُجمَع عليها، ان فلاحة البقر افضل من فلاحة البغال. ومما عُرف، وانقرض اليوم، دَرْس القمح على "المَوْرج". والمورج قطعة خشب ضخمة مشكوكة بالبحص الخشن الأسود، تجرّها بقرتان مُكمّمتان كي لا تريا القمح وتأكلا بعضه أو كلّه. وفي طفولتي، كان الفلاحون يسمحون لي ولأخوتي وأبناء عمي بالجلوس على المورج مقابل كتلة من التين المهبّل نعطيهم إياها. كذلك عُرف "المَدْرَس"، وهو حجر ضخم ودائري يُرشّ تحته الزيتون ويحرّكه حصان يوضع على طرفي رأسه نقاب جلدي يحصر رؤيته ويضيّقها، فلا ترى عيناه الا أمامه. هكذا يمتثل الحصان ويدير الحجر فيأتي الزيت. وكان الكلس المادة الأوفر استعمالا في بناء البيوت التي اقتصر معظمها على غرفة نوم وغرفة جلوس وثالثة للمؤونة والطبخ والأكل. أما الذين امتلكوا حيواناً، أكانوا فلاحين أو لم يكونوا، فأسكنوه أيضاً في هذه الغرفة الأخيرة. وفي زمن يرقى الى الفترة التي ولدتُ فيها، بدأ بناء الحمّامات إذ الناس، قبل ذاك، قضوا حاجاتهم في الحقل كما غسلوا ثيابهم في النهر الأقرب. وأغلب البيوت كان قرميدياً قديماً. لكن أخرى قليلة شرعت، أواخر الثلاثينات، تظهر. وهذه الجديدة التي عمّرتها أموال المهاجرين، بُنيت بالحجر واشتملت على حمامات. فالهجرة هي السبب الأوجه وراء بيوت القرية، وربما فُسّرت بها كثرة معلمي البناء أو "المعمرجيّة"، الذين كان بعضهم من أبنائها وبعضهم من قرية مارونية مجاورة اشتُهرت أيضاً بكثرة المُليّسين. يومها، ولم تكن الكهرباء معروفة، بُرّدت المنازل بفتح الشبابيك. أما الشتاء فعرف الموقدة على الفحم التي أتذكرها بصعوبة، حيث كانوا يشوون البطاطا والكستناء. بعد ذاك عمّ بابور الحطب الذي يؤتى به من الغابات. فمن كان لديه شجر قصّ بعضه، ومن أعوزه اشتراه من أهل القرى المسلمة المجاورة ممن حملوه ليلاً تجنباً ل"مأموري الأحراج". لكن الذين افتقروا الى المال كلياً راحوا يقطعون أخشاب التدفئة التي يحتاجون من الأراضي الأميرية. وحين كنت اتوجه صباحاً الى مدرسة القرية كنت أحمل، الى جانب الكتاب واللوح والطبشور، عود حطب يحمل مثله كل تلميذ وتلميذة آخرين. هذا اوائل الثلاثينات. أما في أواخرها، مع الحرب، فمنعوا كل أنواع الاضاءة بالكاز واللوكس وأمروا، لأسباب عسكرية كما قيل، بدهن النوافذ باللون النيلي.