هل النص يصنع جمهوره أم أن الجمهور هو الذي يعلي من شأن النص أم أن لكليهما التأثير المتبادل. ولكن بنسب متفاوتة؟ وقبل هذا وذاك، ما الذي نعنيه هنا بالنص من جهة والجمهور من جهة أخرى، وفي أي سياق تأتي هذه العلاقة بينهما؟. النصوص سواء كانت طبيعتها فلسفية أو فكرية أو إبداعية أدبية تظل نصوصا تتوجه إلى قراء معينين، لهم خصائص ووظائف محددة، ويكاد ارتباطها بهم يصل إلى الارتباط العضوي على اعتبار أن النصوص تخاطب عند تشكلها في أذهان مؤلفيها قراء معينين، اصطلح على تسميتهم في النظرية النقدية الحديثة (القراء الضمنيين) حيث لا يمكن فهم هذه النصوص من العمق إلا عندما نستحضر هؤلاء القراء ونحلل درجة وعيهم الإيديولوجي وخلفيتهم الثقافية والاجتماعية والكيفية التي يتموضعون فيها داخل النصوص. ناهيك بالطبع عن بقية القراء الذين يتلقون النصوص في سياقات مختلفة من الجغرافيا والتاريخ، وفي أوضاع اجتماعية وثقافية مختلفة. فنص المتنبي على سبيل المثال المؤسس في القرن الرابع الهجري لا يمكن استبعاد قرائه الضمنيين الذين ارتبطت حياتهم بحياته، فنصوص المدح والرثاء والهجاء وكل ضروب الأغراض الشعرية خلفها قراء لهم حضورهم الطاغي والمؤثر في حياة النص وبالتالي صاحبه. لكن نص المتنبي لم يمت لا بموت صاحبه ولا بموت هؤلاء القراء، والسبب أن ديمومة نص المتنبي وامتداده في الزمان هو قدرته على امتصاص قراء آخرين في أزمنة وأمكنة مختلفة، وبالتالي سمة التجدد في المعنى والتفسير والتأويل هو من طبيعة كل نص يمتلك القدرة على استيعاب مختلف القراء من جميع العصور. لكن لننتبه للأمر، فمن نسميهم بالقراء الضمنيين لهم ارتباط عضوي بالجانب التأسيسي للنص، فمدح سيف الدولة أو ذم كافور كواحد من القراء الضمنيين في نص المتنبي لا يمكن استنساخه في فترات لاحقة لحظة تلقيه، فقط التأويل هو المتاح هنا. بعبارة بسيطة النص دائما ما يكون مشدودا إلى واقعه التاريخي والثقافي الذي عاش فيه. ولا يمكن عزله لاحقا عن هذا الواقع، بحجة حرية التلقي وموت مقولة المؤلف وتطور المعرفة وأدواتها. هنا أصل إلى فكرة الجمهور التي لا تعني بالضرورة القراء، فما السبب هنا لربطها بالنص؟ الإجابة تكمن في تصوري هي في ترحل النصوص بين حضارتين أو هو في الفرق بين طريقة تلقيها في الحضارة القديمة، وبين تلقيها في الحضارة المعاصرة. فأولى الفروق وأهمها على الإطلاق هو أن النص في تقاليد الثقافة القديمة وسياقات تلقيه هو من يصنع القراء بينما الجمهور هو من يصنع النص في السياقات الثقافية الحديثة للتلقي، فالجمهور هنا هو العابر للتخصصات والحدود، فشبكة العلاقات القائمة بين الأفراد والمجتمعات من خلال المرئي والمسموع وشبكة التواصل الاجتماعي وعولمة المعلوماتية جعلت من متلقي النصوص ذات سمات مشوهة بخلاف ما كان عليه النص قديما في ارتباطه بالقارئ الضمني، فالنص الفلسفي على سبيل المثال يتداخل ملتقيه بين فئة متورطة في التخصص وبين فئة بعيدة كلية عنه وفئة هدفها التسلية والإشهار ومتابعة الموضة، وهكذا تنطبق الحالة على بقية نوعية النصوص المعرفية بلا استثناء. لذلك نحن نفتقر في ثقافتنا الراهنة لقراء يكونون حلقة وصل بين قراء النصوص الضمنيين وبين تأويلها بما يوافق أفق تفكيرنا المعاصر.