يتفق ياوس مع ليفين شوكنج أن دراسة تاريخ الأدب رهينة بدراسة الذوق في روح العصر المنتج فيه تلك النصوص، وعلى هذا الأساس بنى ياوس نظرية التلقي، إذ جعل للمتلقي أهمية أولى تفوق المؤلف والنص، والمتلقي الذي يشير إليه ياوس وتلميذه آيزر هو المتلقي العادي بجانب المتلقي العليم الذي يمثله الناقد، من هنا تسأل «الحياة» عدداً من النقاد والباحثين: عندما يستخدم النقاد مصطلحات وتراكيب معقدة، بعضها ربما ليست من العربية إلا في شكل الحروف، بل يعمد بعضهم إلى المصطلحات الغامضة على رغم وجود مصطلحات واضحة تفي بالغرض.. فهل للشهوة المتعلقة بخلق هالة من الغموض التي قد تفضي إلى الانبهار دور في خلق فجوة تواصل بين المتلقي والمتلقي العليم (الناقد) ما أدى إلى توسع فجوة التواصل بين النص والجمهور؟ ولعل بعض النقاد يرد قائلاً إن النقد بتقنياته وآلياته ومناهجه وفلسفاته إنما وضع للنخبة المثقفة، وأنه لا بد من أن يتزيّا بزي النخبوية، وإلا لما كان نقداً، وأن النقد إبداع آخر، وليس تبسيطاً لأفكار النص، لكن في الحالين كيف يمكن تقريب النص للمتلقي العادي، وليس بالضرورة تبسيطه، أو كيف يمكن تجسير الفجوة بين المتلقي والناقد؟ صالح رمضان: إسراف كبير فعلاً يوجد إسراف كبير في استعمال الاصطلاح النقدي، وهو راجع في الحقيقة إلى سوء هضم المفاهيم كما وردت في سياقاتها الأصلية، ومنها الجهاز المفاهيمي الخاص بالتلقي. والواقع أنه لا يجوز في تقديرنا أن نستعمل مصطلح نظرية التلقي استعمالاً مطرداً في جميع سياقات النظر في هذه الأدبيات؛ لأنها ليست نظرية بالمعنى المتعارف عليه، وإنما هي مرجعية فكرية متصلة بعملية استقبال القارئ للنص واستجابته له، أو رد فعله إزاءه، وإن كان بعضهم ينسب إلى ياوس نظرية التلقي، فمؤسّسو هذا المنحى في قراءة النص يعدون إنتاج القارئ لدلالة النص جزءاً منه. وقد نشأ مفهوم التلقي في مناخ فكري لا يبتعد كثيراً عن الفينومينولوجيا، ويهتم أصحابه بمسألة شرح النص القديم وأسس جماليته وخصائص تأويله، ومن هذا المنطلق تعدّدت مستويات مفهوم القارئ بين القارئ الضمني والممكن والاستجابة الجمالية وردود الفعل. وإذا كنا نعالج المسألة داخل منظومة مفاهيم جمالية التلقي فلا مناص من أن تكون المفاهيم معقدة، ولا يمكن معالجتها بالتبسيط الذي يؤدي إلى التسطيح، ويحسن أن ننطلق من بعض المفاهيم، كمفهوم الفجوة الذي وضعه آيزر وذهب به إلى أن القارئ ينبغي أن يملأ فجوة النص التي تركها المبدع، وهي نوع من التربية الفنية أو التربية على بناء ردود الفعل الجمالية أي على قراءة الأثر الإبداعي وفق مرجعية ثقافية ذات جمالية واعية. والأهم في نظري ليس تبسيط المفهوم أو تعقيده، بل الأهم هو أن نستغل مفهوم التلقي الجمالي لنعده إطاراً منهجيا تربوياً لتدريب القارئ العادي على التفاعل الجمالي مع النص الأدبي، بصفته جزءاً أو مكوناً من مكونات جمالية أكبر وأشمل، هي جمالية الثقافة التي ينتمي إليها المبدع؛ لأنّ مفهوم الإستيتيقا يتجاوز النظام العلامي للغة الطبيعية أي لغة الألفاظ إلى الأنظمة السيميائية الأخرى، كالألوان والأصوات والأشكال الهندسية وغيرها من الأنظمة العلامية غير اللغوية بالضرورة. والواقع أن مفهوم التلقي ليس بالضرورة متراشحاً مع النقد في دلالته القديمة، أي تمييز جيّد الإبداع من رديئه، بل إن مفهوم التلقي أو فعل التلقي أحياناً يكون في خصومة مع مؤسسة النقد، مثل ما كان في المدرسة الأميركية المعروفة بالنقد الجديد، التي يرى أصحابها أنّ العمل الأدبي إنتاج مغلق، يتضمن دلالات خاصة، ينبغي أن يصل إليها الناقد من دون حاجة إلى تجربة القارئ. صحيح أنّ اتجاهات أكثر تحديثاً للنقد تعدّ القراءة فعلاً مهما في التوقع، ولكنها تتباين في تفسير دوافع أنشطة القراءة وملابساتها الاجتماعية والنفسية والثقافية. ولعل عسر نقل مفهوم التلقي إلى القارئ العادي أو حتى القارئ المتوسط يعود إلى تغير مستويات تناول أهل الذكر من المتخصصين في هذا المجال لاستجابة القارئ، سواء الاستجابة السليمة أم الخاطئة، وفي هذا المضمار يرى ياوس أن النص الأدبي لا ينطوي على معنى واحد موضوعي وثابت، بل يتضمن سلسلة من العلامات الممكن رصدها في ثنايا القراءات المتعددة، وما يمكن أن نتوقعه من قراءة المؤشرات اللغوية والفنية. فالقراءات المتعاقبة أو ما يمكن أن نسمّيه بالتلقي التعاقبي ينتج تراكماً من مظاهر الاستجابة والتأويل والتفسير تجعل القراءة متغيرة بطبيعة تاريخ التلقي. وخلاصة القول إن التمييز بين المتلقي العادي والمتلقي العليم موضوع يناقش كثيراً؛ لأنّ التلقي سلوك ثقافي وجمالي، ويمكن أن يتحول سواء أكان عادياً كتلقي الجمهور الواسع لقصيد في الوصف أم كان تلقياً عالماً في الشروح والتفاسير التي يهتم فيها العلماء بدواوين كاملة، قلت يمكن أن يتحول التلقي إلى مكون من مكونات تاريخ الأدب وتاريخ التذوق بصفته صورة لعلاقة الأدب بالمجتمع وبمعيشه اليومي في الفضاءين الخاص والعام. فتاريخ الأدب ليس تاريخ القراءة العالمة للإبداع فقط؛ بل هو كذلك وربما كان ذلك أهم هو تاريخ لردود الأفعال التي تكوّن الظاهرة الثقافية في أبعادها المعقدة، ومنها البعد الأدبي. ناقد تونسي صالح زياد: سطحية اللغة المبهمة المصطلح ليس مفهوماً عادياً؛ لأنه يحمل تجريد فكرة لها تشعباتها وارتباطاتها التجريدية التي تؤلف جهازاً نظرياً لمن يطرح هذا المصطلح أو ينتجه. وكل معرفة مستحدثة لا بد من أن تحمل معها مصطلحاتها الجديدة. ولذلك فإن المصطلحات لغة علمية يتحكم فيها ويتفاهم بها أهل العلم والمشتغلون به تعلماً وتعليماً، وقد تشيع بعض المصطلحات وتتداول بين عامة المثقفين أو العديد من القراء؛ لأن ما تشير إليه من المفاهيم أصبح رائجاً، وعلى العكس فإن بعض المصطلحات قد يكون معقداً وقليل الشيوع إلا لدى خاصة الخاصة من أهل العلم. وهذه حقائق ليست جديدة في عالمنا اليوم بل هي قرينة العلوم والمشتغلين بها منذ القدم. وحكاية الأعرابي لما وقف على مجلس الأخفش (ت215ه)، وهو يعلّم النحو دالة في هذا الصدد، فالحكاية تذكر دهشة الأعرابي وتعجبه في الأمر؛ لأنه يسمع كلاماً عربياً من قبيل: الفاعل والمفعول، والرفع والنصب والجر... إلخ، ثم لا يفهمه. وحين سأله الأخفش عن سبب تعجبه، قال: «أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا». وكذلك الأمر حين نسمع مصطلحات فلسفية قديمة مثل: الجوهر والعرض والعقل الفعال والثالث المرفوع. على أن مصطلحات النظرية النقدية الحديثة أبعد عن الإساغة وأكثر استعصاء على الفهم بسبب جدتها، ولأنها تتصل بأبعاد فلسفية ومعرفية عميقة ومعقدة وتستلزم الإلمام بمعارف واسعة. وعلى رغم ذلك فإن صعوبة الفهم التي يجدها معظم القراء أمام بعض المقالات النقدية الأدبية لا تعود بالضرورة إلى الجهاز الاصطلاحي والمفاهيمي الذي تنبني عليه، بل إلى ضعف في القدرة على التعبير والبيان، وإلى حذلقة واصطناع وبهرجة بحيث ينتج من ذلك مسافة ابتعاد عن القارئ هي مسافة الشعور لدى الكاتب بالالتحاق بالنخبة والاحتماء بسطحية اللغة المبهمة عن الذوبان في الجمهور والالتحاق بالعامة. وهذا المظهر الأخير هو للأسف الداء المعضل الذي لا تخطئه العين لدى المدعين والمزيفين من النقاد، ويمكن للعارفين بصنعة الكتابة النقدية الأدبية أن يتأملوا على سبيل المقارنة بين هذا الصنف من النقاد والنقاد الكبار المعروفين، وكيف يسلس قياد اللغة للكبار وتحفل كتابتهم بما يجلو المعنى ويقربه إلى الفهم على العكس تماماً من أهل الحذلقة والتزييف. وأعتقد بأن الرهان على فهم القارئ الجاد وإقباله هو المحك في هذا الصدد، فليس هناك أحد يكتب لنفسه، ولكن هناك من لا يملك كشفاً أو تأويلاً له قيمة وجدارة بمعنى أو بآخر، وله من الوضوح أو عمق الإحساس في نفسه، فهو مضطر إلى الغش والخداع والتعمية بخلاف غيره. ناقد سعودي. مبارك الخالدي: كأنَّ الناقد يكتب لنفسه جميل أن أجلس لأجيب عن أسئلة «الحياة» بعد إنجاز ورقة نقدية وجدتني قبل الشروع في كتابتها مستدرجاً ومجذوباً إلى النظرية وتوظيف بعض المصطلحات النقدية. لم تكن النظرية ولا المصطلحات قد خطرت في بالي قبل قراءة النص، ولم آتِ إلى النص مدججاً بالنظرية، إنما أقبلت عليه وأنا على يقين بأنه يخبئ بعض مفاتيح مغاليقه، وأنه قد يأخذ بيدي إلى النظرية أو قد لا يأخذ. كان النص رواية «في حضرة العنقاء والخل الوفي» للروائي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل. وقد حدث جزء مما توقعت، ففي موضع معين في النص تلفظ السارد «منسي ابن أبيه» ببعض الكلام، وكان ذلك البعض من الكلام هو رأس الخيط الذي أمسكت به فقادني إلى خارج متاهة الحيرة فيما أكتب عن الرواية. جُمَل قليلة قالها السارد فقدحت زناد الذاكرة، فحضرت النظرية والمصطلح وتراقص وجه المُنَظِّر على شاشة الذاكرة. بكلمات أخرى، لقد وهبني النص مفتاحاً لبوابة أحد حقوله الدلالية، ولا أشك في وجود مفاتيح أخرى لحقول أخرى قد يهبني النص أحدها أو بعضها في زيارات أخرى له، ومن المتوقع أن يهب بعضها لآخرين. لم أكن مدفوعاً في قراءتي (بالشهوة المتعلقة بخلق هالة من الغموض) قد تزيد ما هو غامض بطبيعته (النص) غموضاً. كان توظيفي للنظرية والمصطلح النقدي ضرورياً في تحليل النص من أجل فهمه، واستجلاء جمالياته واستكشاف ما يمكنني من أمدائه الدلالية، وصولاً إلى إنتاج ما يمكن إنتاجه من معرفة به. أعتقد أن كثيرين يقاربون النصوص على نحو مشابه للطريقة التي حاولت بها الاقتراب من رواية إسماعيل فهد إسماعيل. هل كنت خلال كتابة الورقة ذاتها معنياً ومنشغلاً بتجسير ما أتوقع وجوده من فجوات بين الرواية وقرائها العاديين، أو بتبسيط ما أعتقد أنه أفكارها؟ الجواب بالنفي. لقد كان اهتمامي منصباً على إنجاز ورقة تتضمن ثمرة خلوتي بالنص ومواجهتي معه، وهي نص آخر لا أستطيع التيقن من أنه سيقوم بتجسير الفجوة المفترضة بين الرواية والقارئ العادي. وهذا يقودني بدوره إلى التساؤل عمّا إذا كان النقاد يفكرون في قراء افتراضيين أو محتملين خلال استغراقهم في تحبير حصيلة غوصهم في النصوص الإبداعية. تحدث المنظِّرون والنقاد كثيراً عن قارئ النص الأدبي بصفته الضمنية والافتراضية والمثالية والحقيقية، لكن لم يقل أحد من أولئك شيئاً عن قارئ ضمني أو افتراضي للنص النقدي. حتى يبدو الأمر في ظل هذا الصمت الرهيب وكأن الناقد يكتب لنفسه، غير عابئ بمد جسر بين النص الذي أشتغل نقدياً عليه وبين القراء العاديين، أو كاحتمال أوسع، يكتب لغيره من النقاد والمتخصصين والمهتمين بالأدب، وأن القراء العاديين لا يهتمون لا بالنقد ولا بالنقاد، وهذا ما قد يفسر سبب وقوف الناس في صفوف طويلة في انتظار الحصول على توقيع روائي أو شاعر أو مسرحي على نسخهم من كتابه، بينما لا يحظى كتاب نقدي يناقش أياً من تلك الكتب بالإقبال الكثيف عليه، أو أن يتربع على رأس قائمة الكتب الأكثر مبيعاً. أعتقد بأن هذا موضوع مهم يستحق الالتفات إليه. ناقد سعودي.