هناك هامش واسع جدا بين التخيلات للواقع، غير الخاضعة لقيود المطابقة مع عناصر الواقع، وبين الآليات الذهنية المنطلقة من تجارب ذاتية، أو من مجمل التجربة الإنسانية، التي تكرست من خلالها مجموعة من الضوابط المؤسسة لنواة صلبة من مضامين المعلومات وعوامل التفاعل بينها، في إطار شمولي يحقق القاعدة المعرفية المشتركة بين البشر المتآلفين في بيئات عيش مشتركة أو ثقافات متقاطعة. فكثير من الناس لا يدرك أن ممارساته وحالات التفاعل بينه وبين الآخرين تترك آثارا في محصلة تجاربه، تجعله مختلفا في نظرته إلى الأمور، التي كانت مدار تلك الممارسات أو التفاعل الاجتماعي، كما تضيف إلى مخزون الذاكرة لديه من الارتباطات الوجدانية، والقدرة أو الرغبة في ربط الأفكار الجديدة بما يوجد لديه من قبل من أفكار أو إرهاصات تتعلق بتلك الموضوعات، بشرط أن يكون متخليا عن الأحكام المسبقة وضيق الأفق الذي تصنعه الأيديولوجيات في الأذهان. فالمرء السوي والمتوسط في قدراته الذهنية يكون قادرا على استنتاج مجموعة من الروابط المنطقية من خلال سيل الأفكار، التي تلج إلى مراكز المعالجة الذهنية أثناء تفاعله مع الآخرين وتبادله الحوارات الفكرية معهم. كما تنشأ لديه بعض الارتباطات العاطفية مع عدد من المصطلحات الواردة في تلك السياقات، مما يثير لديه شيئا من التماهي الوجداني مع مضامينها. والأمر نفسه يحدث على صور متعددة من الهواجس النفسية والمخاوف والتوترات لدى معالجته بعض المضامين، التي تنشأ في سياقات اجتماعية معينة ذات أثر - من وجهة نظره - في الماضي أو المستقبل الفردي أو الجمعي. ففي كثير من الحوارات الثنائية أو الجمعية لا تعطي المفردات فيها دلالات آنية ومحددة، بل تؤخذ من سياق قولها، ومن الوضع النفسي والعلاقة الإنسانية مع منشئها. وفي المحصلة لا يكون المحتوى الإخباري فيها مهما، بقدر ما تثيره المقاصد المستقاة من الموقف والسياق التاريخي والاجتماعي، إضافة إلى رغبات أو مخاوف المتلقي، التي يدرجها دون وعي منه في استنتاجات الدلالة والمقاصد لتلك الأقوال الواردة في سياق شفهي أو كتابي، ومن ذلك فهمه دلالات التحذير من مشكلات أو أخطاء جسيمة، أو حتى الوعود المبطنة بأشياء إيجابية، إن كان مصدر القول صاحب سلطة سياسية أو إدارية أو اجتماعية. وما يساعد المتكلم أو الكاتب، الذي يحرص على إبلاغ أكثر من المحتوى الحرفي للقول، أن هناك دائما خلفية من المعطيات السياقية المشتركة المتعددة والمعقدة، والتي ليست في وعينا دائما، لكننا قادرون على استنتاجها بوسائل مختلفة، ولو في غياب المؤشرات المباشرة الدالة عليها. إذ إنه مع تكرارها في الثقافة نفسها تصبح من الضمنيات المفهومة في كل نوع من الأقوال، التي يلجأ إليها أصحاب الخبرة في هذا المجال من الأدباء والسياسيين المحترفين والإعلاميين الحاذقين والمحامين المهرة. فالإشارة دائما إلى القرائن، دون التصريح المباشر بها، يعطي قيمة أكبر للقول، لأن المتلقي يكتشف هذه القرينة بنفسه، أو يظن بأنه هو من توصل إليها بتفكيره، حتى لو كانت جاهزة أمامه من خلال صياغة بارعة في الإشارة إليها. وبالطبع يُستثنى من هذه الحالات الطبيعية أولئك الخاضعون للأحكام المسبقة أو الأيديولوجيات المعطلة لقدرات الذهن على الاستنتاج والتفكير المنطقي، إذ تكون المسلمات لدى مثل هذا النوع من البشر جاهزة، وتحول الأيديولوجيا المسيطرة عليه دون إعادة النظر فيها.