تبدو التجربة الشعرية الراهنة في السعودية، من وجهة نظر شعراء ونقاد الجيل الشاب محكومة برحلة البحث عن جمهور، ومسكونة برغبة عميقة في العودة إلى الجذور. وتبدو قصيدة النثر في أزمة، فيما تسجّل ظاهرة العودة إلى القصيدة العمودية اقبالاً لافتاً. ما مستقبل اجتهادات وتنظيرات الثمانينات، وأي أثر تركته أسئلة الحداثة على الحركة الشعرية؟ هل وصلت قصيدة النثر إلى الطريق المسدود؟ وهل العودة إلى الشكل التقليدي انسحاب وتنازل واعتراف بالفشل، أم محاولة لتطويع القوالب القديمة كي تتسع لهواجس المرحلة ومشاغلها الفكرية والجمالية؟ "الوسط" جمعت في جدة والرياض والدمام ستّة شعراء وستّة نقاد، يمثلون مختلف الاتجاهات والحساسيات، للخوض في هذا النقاش، بما ينطوي عليه من مراجعات وتساؤلات. قدّمنا في العدد الماضي الحلقة الأولى من ندوة "الوسط" حول اشكاليات القصيدة الحديثة في السعودية، من خلال محوريّ التلقي والمتابعة النقدية. ونستكمل محور الغياب النقدي في هذه الحلقة، ثم نعرج على اشكاليتيّ مستقبل قصيدة النثر في السعودية، والعودة الملحوظة لبعض الشعراء، إلى شكل القصيدة العمودية ومدى تأثير هذه العودة على مصداقيتهم "الحديثة". * الوسط: لا يمكننا أن ننكر أن هناك تفاعلاً ما بين النشاط النقدي والحساسية الشعرية الجديدة في السعودية... - غسان الخنيزي: يجب علينا كشعراء أن نتخلّى عن نبرة التشكي، والاختباء خلف تقصير النقاد. قصيدة النثر تحديداً، هناك قطيعة كبيرة بينها وبين نقادنا المحليين. يبدو أن غالبية نقادنا لا يميلون إلى قصيدة النثر بل إن لهم مواقف متذبذبة منها. على أن هناك جملة من الاستدراكات التي لا بدّ منها، تفادياً للتقليل من قيمة بعض الاضافات المهمة في هذا المجال. فكيف نتجاهل الدور الأساسي الذي يلعبه النقاد الألسنيون في تحريك الفكر النقدي، بعيداً عن الخطابيات والتوظيف المسبق للنص الادبي، وتأسيسهم لفكرة التعامل مع النص وتكويناته من دون وسيط؟ ساهم ذلك في دفع القصيدة الجديدة إلى الظهور والتواجد، ضمن وضع ثقافي كان القارئ فيه معنياً بأن يعرف عن الكاتب أكثر من القصيدة، قبل أن يحدّد علاقته بالنصّ. هناك إذاً تنظيرات نقدية مهمة حول اشكاليات الغموض واللغة والمتلقي. وأعتقد أنها لعبت دوراً ايجابياً في تحريك القصيدة الحديثة. وهذه التنظيرات، وإن كان اهتمامها موزّعاً بين النصوص المعاصرة والكلاسيكي، قدمت تصورات تهم الابداع عموماً. ولعله من المناسب الاشارة إلى كتابات عابد خازندار، وبعض التصورات التي قدمها علي الدميني حول القصيدة الجديدة واشكاليات التلقي قبل عامين تقريباً. هناك بالتأكيد تفاعل غير مباشر بين النشاط النقدي والحساسية الشعرية الجديدة. أما الفجوة القائمة بينهما عموماً، فمردّها ربّما إلى كون النقد عندنا ممارسة أكاديمية أكثر منه ممارسة ابداعية. - أحمد سماحة: يجب أن نعذر الناقد في مسألة عدم المواكبة. ليست هناك وظيفة تسمى "ناقد" يتخصص لها فرد معين من أجل أن يواكب الحركة الابداعية بشكل عام. الناقد أما رجل أكاديمي أو يعمل في وظائف أخرى، وهذا هو الوضع في اعتقادي، في العالم العربي كله. ولكننا نطلق صفة الناقد على أفراد لديهم القدرة على الفرز وتقويم النصوص وقراءتها. ونلاحظ أن تكاثر المدارس والاتجاهات خلق حالة من الفوضى والتخبّط في الممارسة النقدية. ففي غضون سنوات قليلة توالت علينا البنيوية والتفكيكية والأسلوبية والألسنية، بحيث اختلطت الرؤى. واهتم النقاد بالجانب النظري، فابتعدوا عن مواكبة الابداع بشكل عام. كما أن لدينا تراثاً نقدياً هائلاً، ما زال مرجعاً أساسياً في عملية النقد وهناك من هو مرتبط به، يقيس على أساسه القصيدة الحديثة. وكل جيل يعمل على فرز نقاده، فإذا فشلت التجربة في افراز نقادها ساد الاعتقاد أنّها لم تستطع أن تؤسس لنفسها موقعاً في الحركة الابداعية بشكل عام. وأشير أخيراً إلى التشوش في استخدام المصطلح النقدي، كما أن بعض النقاد ينطلق من رؤية جاهزة في تعامله مع كثير من الأعمال. مستقبل قصيدة النثر * الوسط: كيف الحديث عن مستقبل قصيدة النثر، وقصيدة التفعيلة نفسها لم تنجح تماماً في حفر أساسات متينة في الوجدان العام؟ كيف ترانا نفسّر، في السعودية، ظاهرة "انتشار" من يعتبرون أنفسهم "كتّاب" قصيدة النثر، وسط حالة من التفاوت المدهش في الاداء الشعري بين تجربة وأخرى؟ - عبدالله الغذامي: حينما نتحدث عن مستقبل قصيدة النثر، يبدو لي أننا نرتمي في أحضان مغامرة غير مضمونة النتائج. أنا أحب قصيدة النثر وأتذوقها وأقرؤها، لكن ذلك لا يكفي لتأمين استمراريّتها. جمهور القراء هو الذي يقرر مستقبل هذه القصيدة، لا النخبة ولا النقاد! فلو اتحد النقاد بكل ما يملكون من قوة لفرض قصيدة النثر ونشرها لدى الجمهور، لما تقدّموا قيد أنملة. ما تفتقر إليه هو جمهورها العريض، ومتى استطاعت كسب هذا الجمهور فحينئذ سيكون لها مستقبل. أما إذا لم تستطع اجتياز العوائق والفواصل بينها وبين الناس، فستظل في دوائرها المغلقة. بدايات الشعر المنثور تعود إلى مطلع القرن، مع أمين الريحاني، أي أنها سابقة لقصيدة التفعيلة أو الشعر الحرّ. ومع ذلك نجد أن هذه الأخيرة شاعت في الثقافة العربية المعاصرة، وانتشرت بين المبدعين وبين جمهرة القراء وتغلغلت في الوجدان الثقافي العربي... ولعلّها كادت تزعزع القصيدة العمودية. أما قصيدة النثر، فلم تستطع منافسة القصيدة الحديثة ولم تستطع تحقيق وجودها الجماهيري. وهذا يشير إلى أن مستقبلها ضيق جداً. ربّما كان السبب أن الناس يربطون الشعر بالايقاع، إذ تمت "برمجتهم" طوال قرون على أساس أن الشعر غناء وايقاع، فانغرس هذا المفهوم في وجدانهم... كما أن القصيدة المشار إليها اعتمدت على تكثيف الدلالة وتعميقها، بينما الجمهور العريض تعوّد على استقبال الجملة السريعة الواضحة، نظراً إلى تحدّره من ثقافة شفوية متوارثة على مدى قرون. إن كتّاب قصيدة النثر يتذوقون بعضهم بعضاً، ما يعني انهم قبلوا هذا الميثاق الجديد الذي يقوم على تغيير في مفهوم النص الشعري. أما الجمهور فلم يتجاوب بعد مع هذا الميثاق الجمالي والمختلف. - محمد الدميني: التفكير في مستقبلية قصيدة النثر، مسألة ليست في متناولنا الآن. إذ يفترض بنا أن نتمهّل عند راهن هذه القصيدة، وقد نستشف من هذا الراهن شيئاً من ملامح الآتي. فقصيدة النثر لم تظهر في السعوديّة إلا في منتصف السبعينات، وأول من كتبها الشاعرة فوزية أبو خالد. كتبتها في بيروت، أي خارج الوسط الأدبي المحلّي، ولهذا لم يكن لها وجود حقيقي. ما يمكن تسميته تياراً أخذ يتشكّل في الثمانينات، وكانت البدايات متعثرة وبأصوات قليلة، مثل محمد عبيد الحربي الذي مضى في تجربته ضمن سياق التجربة الشعرية المحلية. وبدأت القصيدة تتجذر إلى حد معقول منذ منتصف الثمانينات حين برز شعراء وشاعرات يحاولون صياغة رؤية جديدة للقصيدة في السعودية، ونجحوا في اضافة هذه التجربة إلى الأشكال الشعرية القائمة. ولاقت قصيدة النثر الاشكاليات نفسها التي لا تزال تضعها في مواجهة قصيدة التفعيلة حتى الآن، وأشكال التنميط فيها. لم تتشكّل كبديل ممّا هو موجود، بقدر ما كانت محاولة للاحتجاج على الأشكال التي تكلست وتجمدت. واعتقد أنّها مفتوحة وباستطاعتها ان تعيد تشكيل لغتها ورؤاها. - غسان الخنيزي: قد اتفق مع محمد الدميني في أن قصيدة النثر تمثل تأكيداً على استمرارية الحساسية الشعرية الجديدة التي يمكن اعتبارها امتداداً منطقياً بدورها لحساسيات شعرية سبقتها. كما أتصور من ضمن هذا الطرح أن مستقبل قصيدة النثر أمامها، لما تمثّله من آفاق غير مطروقة. ولا شك أنّها تحمل اشكالياتها الخاصة بها، ايجابية أو سلبية. فهي تخلّت عن صفة الخطابية الملازمة للقصيدة المنبرية، أقصد خطابية اللغة والفكر. واتصور انها بذلك تخلت عن دينامية الشعر كما عهدناه، فأصبحت "نصوصاً استاتيكية". وهي صفة لا تقلل أو تزيد من قيمتها، وانما تطرح امامنا امكانية جديدة ازعم انه لم يسبق الالتفات لها في البوح والقول والاستماع. قصيدة النثر اليوم جزء من المشهد الثقافي الراهن في العالم العربي. وعليها رفع تحديات كثيرة قبل أن تتجذر، وعلى الرغم من ذلك اعتقد أنها موجودة ومستمرّة لفترة طويلة في حياتنا الأدبية. - حسن السبع: المستقبل مؤسس على ماهية القصيدة، ماذا تقول أنت كشاعر ؟! المسألة هنا لا تعتمد على الشكل التعبيري، ومأزق قصيدة النثر هو مأزق القصيدة العمودية نفسه، ومأزق قصيدة التفعيلة. هاتان القصيدتان تعتمدان على التطريب الوجداني، فيما مأزق قصيدة النثر يتمثل في تخليها عن التطريب. لذا لا بد من ايجاد بديل من الايقاع الذي يستلب أذن المتلقي. وأعتقد أن المضمون المغاير هو البديل، وهذا هو الرهان. ففي كثير من النصوص النثرية أجد الشاعر يخاطب نفسه وليس القارئ، وهو يهيم في حالات مغلقة. - علي الدميني: قصيدة النثر إضافة ربّما، لكنّها وليدة معضلة، إذ انّها تعبر عن قطيعة مع الذاكرة، مع التراث العربي. هناك ازدواجية إذاً، في العلاقة بالذائقة واللذة. واعتقد أن من الميزات الهائلة لقصيدة النثر أنها تتجاوز قيود الوزن والتفعيلة التي تحدّ بشكل أو بآخر من التدفق العقلي والمنطقي والطبيعي للذات الشاعرة. كما أنها تحاول ايجاد لغة جديدة عن طريق تقصير المسافة بين التجريد والحياة اليومية. ولعلّها تقدّم مستوى معيناً من التعبير، لا تستطيعه قصيدتا العمود والتفعيلة، لأن فيهما طابع النشيد، والملحمة والغنائية حتى خارج السياق الموسيقي. المسألة إذاً مسألة مستويات معيّنة، لا يمكن التعبير عنها إلا من خلال قصيدة النثر، إضافة إلى كثافة اللغة واختصار العالم، وطرح مسألة الشعرية المتجاورة، أو شعريات التشظي. كل ذلك يجعل موقعها متيناً، شرط أن تقدم رؤية جديدة من دون التأسيس لأي قطيعة. - أحمد سماحة: كلمة "مستقبلية" مرعبة جداً، لأنها ترتبط بمتغيرات كثيرة، بعوامل مختلفة، وبالراهن أيضاً إذ لم يتحدد بعد الشكل الذي يمكن أن نطلق عليه تسمية "قصيدة النثر". وأعتقد أن هذه القصيدة لا تخضع لأطر ومعايير نقدية ثابتة، إلى جانب ارتباطها بالواقع اليومي الذي يتغيّر بشكل مذهل. لكن استمراريتها تبدو لي أكيدة، نظراً لارتباطها بحاجة تعبيرية معينة. هذا إلى جانب أنها قصيدة "بصرية" وليست شفويّة، مايجعلها مرتبطة بشكل دائم بالمطبوعة. - عبدالرؤوف الغزال: من سوء حظنا ان اكثر مَنْ يعارضون قصيدة النثر هم شعراء التفعيلة، وبعض النقاد، وربما يرجع ذلك إلى "خصومة اصحاب الصنعة الواحدة". اما المتلقي فحساباته مختلفة، ومشكلة بعض النقاد مع هذه القصيدة انه لا يعطي "صك" شرعية لاي شاعر الا من خلال التنظيرات التي يصنعها هؤلاء. وهذا موجود في كل النقد العربي وربما ينسحب على بعض النقاد العالميين. في السعودية وحدها الصفحات الثقافية تهتمّ بتقديم التجارب الجديدة. أنا أعتقد أن المستقبل لها وبقوة، ما لم يظهر جيل جديد في قصيدة التفعيلة يعيد إليها توازنها المفقود في مواجهة قصيدة النثر. - هاشم الجحدلي: ربما تكون قصيدة النثر أقصى حالات التطور التي وصلت إليها القصيدة الحديثة. لكننا لانستطيع الجزم بأن المستقبل لها، لأن قصيدة التفعيلة لم تستنفد بعد كل طاقاتها. إن شاعراً كمحمود درويش يقنعنا ان بامكان قصيدة التفعيلة ان تقدم المزيد من الاستكشاف الشعري. - فائز أبّا: الحركات الشعرية - والفنية عموماً - كان لها دائما مجالها الحيوي الذي تعيش فيه. وهذا ينطبق تحديداً على دائرة التلقي لكلّ الحركة الادبية ذاتها. لكنّني أتصوّر أن هذه الدائرة ستزداد ضيقاً بسبب ما يحاصرها من مصاعب وتحديات. نحن في عصر نوشك أن نتحدث فيه عن اختفاء الصحيفة التي قد تتحوّل لقطة عابرة على شاشة الكمبيوتر في المستقبل القريب. المجال الحيوي إذاً، مجال القارئ الذي أخذ يتناقص تدريجاً، يهدد ليس بموت قصيدة النثر وحسب، بل أشكال الكتابة كافة. أنا عاجز عن التفاؤل بالنسبة إلى الحركات الشعرية الحديثة. - سعيد السريحي: نتصور دائماً أن هذه القصيدة هي مستقبل الشعر، لأن الانسان لم يعد قادرا ًعلى تكرار نفسه. هذه الرغبة في مواجهة المجهول والمفاجيء والمدهش، لا تحققها له القصيدة العمودية بما تفرضه "سيمتريتها" من ثرثرة، ولا قصيدة التفعيلة بما يندس فيها من ايقاع يجبرها أيضاً على نوع من المجانية والتنميق. قصيدة النثر هي خلاصة الخلاصة، هي قصيدة الانسان المقبل، هي الشعر القادم. ومع ذلك فعلينا ألا نستبعد الحركة الدائرية للتاريخ، وهي تجعل الانسان محتاجاً، في أرقى لحظات، إلى العودة نحو بدائيته. لذلك قد تعود قصيدة النثر بشكل آخر، ولكنها قد تستمر كذلك كروح للقصيدة. ولكي لايكون كلامي غامضاً، لاحظوا معي كيف تشكّل تجربة البردوني عودة بقصيدة التفعيلة إلى العمودية. فالبردوني ليس امتداداً لامرىء القيس والمتنبي وأبي تمام وأحمد شوقي، بقدر ما هو امتداد لقصيدة التفعيلة التي اتخذت الشكل العمودي. قصيدة النثر إذاً موجودة بقوة في المستقبل، ولكن الحركة الدائرية للتاريخ قد تؤدي إلى ظهورها داخل الأطر القديمة. سيبقى منها خيار التركيز على شعرية اللغة نفسها بمعزل عن الايقاع. - سعد البازعي: أعتقد أن قصيدة النثر فرضت نفسها، ولم يعد من مجال للتساؤل حول مستقبلها، لا سيّما أنها ترسّخت من خلال تجارب متميزة على اختلاف توجّهاتها، نذكر على سبيل المثال سعدي يوسف ومحمد الماغوط، ومن الجيل الجديد وليد خازندار وأمجد ناصر ومحمد الدميني. العودة إلى القصيدة العمودية * الوسط: كيف نفسر عودة بعض الشعراء إلى القصيدة العمودية، ومحاولة تحديث لغتها وصورها وتضاريسها الفنية؟ هل يعد ذلك بمثابة فرار من محاولات التجريب؟ ام أنه يمثل اعترافاً بالفشل، وتراجعاً عن مكتسبات القصيدة الحديثة على اختلاف أشكالها؟ - عبدالله الغذامي: يجب أن نتحفظ قليلاً، حينما نتحدّث عن فكرة العودة إلى القصيدة العمودية. لأن ما يحدث في الحقيقة ليس عودة إلى تلك القصيدة، وانما هو استدراج لها لكي تدخل في حوار مع الاشكال الجديدة. واذا أمعنّا النظر في التجربة الحداثية العربية، وجدنا أنّها لم تتخلّ كليّاً عن الاشكال العمودية. فالسياب مثلاً كان يزاوج بين الشكل العمودي والشكل الحديث، ونجد نماذج مماثلة عند صلاح عبد الصبور، أمل دنقل، غازي القصيبي، ولدى شعرائنا هنا عند عبدالله الصيخان، سعد الحميدين، محمد الثبيتي، محمد العلي، أحمد الصالح... هؤلاء أدرجوا الشكل العمودي في تجاربهم الشعرية، بل ادرج بعضهم النص الشعبي في تجاربه، فأصبح الشكل الجديد يحاول جمع الأشكال كلها واختبارها. وأعتقد أن الدافع إلى مثل هذه المحاولات، هو إحساس حاد لدى الشاعر بأن هناك أشياءً لم يتمكن بعد من قولها. هنا اتذكر كلمة للراحل حمزة شحاته تقول "لا يعطي تفسيراً حقيقياً للحياة الا الموت"، فاللحظة التي نشعر فيها اننا استطعنا تفسير الحياة هي اللحظة التي لانملك بعدها خطاً للعودة. - علي الدميني: ليس الشكل هو الذي يعبّر عن أيديولوجية ما، بل الطبيعة الفنية والجمالية للنصّ. جربنا كلّ الأشكال، وفي اعتقادي انه لن يكون هناك اي شكل آخر يمكن أن يضاف إلى هذه الاشكال. أي أننا بشكل أو بآخر، مع وصولنا إلى قصيدة النثر، سنصطدم بالجدار الأخير. لم يعد يمكن التصنيف انطلاقاً من الشكل، بل على أساس الوعي الفني والرؤية. نحن في بداية ما يمكن أن نسمّيه بثورة هائلة في تاريخ تطوّر الشعر العربي. العودة إلى الاساطير والملاحم والرموز ارتبطت بالانسانية في سعيها إلى استنطاق نفسها. ونحن في الخمسينات عدنا بشكل او بآخر إلى استنطاق هذه الرموز وتحميلها معان وأبعاد جمالية جديدة. العودة إلى أشكال سابقة، لا تشكّل إذاً ردة او نكوصاً، فالكتابة مهما كان الشكل الذي تعتمده، لا يمكن أن تكون تنازلاً. ولكن ما يحكم على التجربة هو علاقتها بعصرها، وموقعها من المتلقي والمبدع والناقد. أنا أؤمن بتعايش الاشكال الابداعية لا بصراعها، وأعتقد أنني أحاول الاستفادة من هذه الأشكال كافة. - عبدالرؤوف الغزال: أعتقد أن أزمة الحداثة أفرزت جيلاً قادراً على كتابة قصيدتي التفعيلة والنثر. واضطر الجيل نفسه إلى مواجهة هجوم قاس على الحداثة، فإذا به يتصدّى محاولاً اثبات مقدرته على خوض القصيدة العمودية. هكذا يتكرّر اليوم افتتاح القصيدة الحديثة بكتابة عمودية في كثير من دواوين هذا الجيل. أنا أفهم مثلاً موقع شاعر كعلي الدميني، لأنه يقوم بدور مزدوج: كناقد وكشاعر. وأعتقد أنه ليست هناك "ردة"، بل ان الجيل الذي قاد التحديث في السعوديّة، قادر على الابداع من خلال مختلف الأشكال الشعرية. - أحمد سماحة: لا أستطيع منع أي شاعر من اللجوء إلى الشكل الذي يريد، سواء بدأ بقصيدة النثر أم عاد إلى القصيدة العمودية. فالشاعر يبحث دائماً عن الأدوات والأساليب الفنية التي يستطيع أن يعبّر عن نفسه من خلالها. وهذا من حقه ولا أستطيع اتهامه بالردة مثلاً. أضف إلى ذلك أن بعض هؤلاء الشعراء يمارس التجريب من خلال القصيدة العمودية، ساعياً إلى الخروج بها نحو فضاءات فنيّة أكثر رحابة. - حسن السبع: مصطلح "العودة" غير مناسب، لأنني كشاعر أكتب الآن، مثلاً، قصيدة لها حالتها الخاصة وتعبيرات منطلقة من تجربة معيّنة، ولا أحسب حساباً للاطار الخارجي. فاللحظة الشعرية هي التي تفرض "استخدام" شكل شعري معين. الانفعال، في رأيي، هو الذي يحدد الشكل. هذه المسألة مطروحة اليوم للأسف، وكأنما الشكل أيديولوجيا. أدواتي ليست لها علاقة بالفكرة أو بالمضمون، إلا من خلال ما تستطيع أن تؤديه في هذه اللحظة. فإذا فشلت كان الذنب ذنبي لا ذنب النوع الذي ألجأ إليه. - سعيد السريحي: الوعي النقدي والشعري عموماً تجاوز مرحلة رفض القصيدة العمودية لمجرّد كونها عمودية. العمودية لم تعد تهمة يتبرأ منها الشاعر، بل أصبح قادراً على استيعابها كوظيفة. ولكن الانكسار الذي يمر به العالم العربي، وخيبات الأمل التي يعاني منها مثقفوه، والتراجعات السياسية والقومية والاقتصادية والثقافية... تدفع جميعها إلى ما يشبه الانكفاء والدعوة إلى احياء القصيدة العمودية. أشعر أحياناً أن الثقافة الحديثة مصابة بشيء من التجمد، فدرجة الوعي والمعرفة لدى النخبة دفعها إلى حالة من العزلة والانغلاق على بعض الثوابت. على المبدع أن يحاول مخاطبة الناس بما أوتي من وسائل، أن يتواصل معهم خلافاً لما هو سائد على صعيد بعض الممارسات النقدية. - سعد الحميدين: ليست هناك "عودة" إلى العمودية، بل محاولة للبحث عن الذات. فالشاعر في حركة دائمة لا يقبل الركود، وهو متنقل جواب آفاق باحث عن معنى، عن حقيقة. حالة كتابة القصيدة هي التي تملي على الشاعر الشكل. والذين يلجؤون إلى التحديث من داخل القالب التقليدي، عبر اللغة والصورة والمجاز يختبرون مقدرة الشكل على استيعاب انزياحات الشاعر. - محمد الدميني: إما ان يكون الشاعر يئس من أشكال الكتابة الحديثة، أو أنّه يبحث عن قارئ - وقد نرى في عودته إلى القصيدة التقليدية والحالة هذه، استجداءً أو تنازلاً. هناك من تنازل عن البحث عن مفاهيم جديدة، لصالح مفهوم شعري ثابت. وقد تكون هذه العودة وليدة البحث عن جماليات معينة ربّما تفتقدها القصيدة الحديثة، والعمل على تثوير هذا الشكل -العمودي- من الداخل. والتجريب حق لكل شاعر، لكنني أعتقد أن العودة إلى الشكل التناظري تعبير عن أزمة، ويأس من الأشكال المستقبلية ومن الأدب بشكل عام. والقصيدة التناظرية تعيش نهاياتها الآن بشكل عام. - غسان الخنيزي: العودة إلى الأشكال الشعرية الكلاسيكية تضع تساؤلاً حول امكانية تصنيف الفعل الشعري. هل من الممكن الابداع شعرياً خارج وطأة التاريخ؟ هل من الممكن التنقل بين الاشكال الشعرية من دون التزام اعتبارات مرحلة وأحكامها؟ العودة إلى الشكل الكلاسيكي قد تكون تعبيراً عن أزمة، أو نكوصاً وتراجعاً عن مشروع ليس مرتبطا بالشكل قدر ارتباطه بفهم طبيعة العصر البعيدة عن الخطابية. واتصور ان هناك امكانية وحيدة لتقبل تلك العودة، عندما تأتي ضمن سياق التنازل عن ايديولوجية الشكل، فنحن بحاجة إلى تحطيم هذا النوع من الأيديولوجيا، سعياً إلى التجاور بين الاشكال الشعرية. - سعد البازعي: عودة بعض الشعراء إلى الشكل العمودي، أو التناظري، لا تحتاج إلى تفسير. فالاشكال الابداعية ليست منجزات علمية يمكن تجاوزها، كما يحلو للبعض أن يعتبر. في الشعر الانكليزي مازال هناك من يكتب السونيته، وهذا يجوز مثلما يجوز ان تستمر الرواية على مدى ثلاثة قرون، والكوميديا على مدى ألفي عام. ولكن لو عدنا إلى دينامية الشكل العمودي لوجدنا مبرر حياته نابعاً من موسيقيته التي لا تتوافر في قصيدة النثر، والتي لا يمكن أن تعوّضها قصيدة التفعيلة ذاتها. وفي ظني أننا نكون أكثر ثراء باستمرار الشكل العمودي مجاوراً لغيره من الأشكال، فلكل نوع دوره ومتذوقوه. وفي حالة الشكل العمودي تحديداً أرجو ألا ننسى أننا نتحدث عن أكثر الاشكال الشعرية عراقة في تراثنا الابداعي، الشكل الذي احتوى أعظم المنجزات الشعرية لأجيال من الشعراء العرب منذ الجاهليين وحتى شوقي والاخطل وأبي ريشة. واذا كانت قصيدة النثر تناسب ايقاع العصر أكثر من غيرها، كما يدّعي البعض دون شرح هذه المقولة شرحاً وافياً، فان من الشعراء المعاصرين من استطاع ان يطوع الشكل العمودي ويقربه من تركيب اللغة المحكية، ويثبت قدرة ذلك الشكل على الولادة من جديد عبر الصور المبتكرة.