هناك انطباع شائع عن المفكرين أو المثقفين بأنهم أشخاص غارقون في وسط من الأوراق أو الكتب، غير آبهين بشؤون الحياة الأخرى، فقد يكون الأسلوب الغدائي لأحدهم مضطربا، أو يدخن بشراهة ولا يعتني بإيقاع النوم وبممارسة الرياضة أو المشي، مطيلا الجلوس على الكرسي لساعات طويلة وفي أماكن مغلقة، مشفوعا له بكونه مستغرقا في كتاباته وقراءاته، منصرفا عما سواها. لكننا نفكر بواسطة أجسادنا، ليس فقط لأن العقل يقيم داخل حدود الجسد، وإنما لأن العقل والجسد شيء واحد، فليست هناك منطقة محددة داخل الجسد هي التي تنفرد بمهمة التفكير بنحو مستقل عن سائر الجسد، وإنما يشارك الجسد برمته وبكل تفاصيله في عملية التفكير بنسب متفاوتة، وهذا ما يرمي إليه الحديث المأثور «البطنة تذهب الفطنة»، وبصرف النظر عن سند الرواية فالدلالة وثيقة وتؤكدها خبرتنا اليومية، فالبطن أشبه ما يكون بدماغنا الثاني، والجهاز الهضمي غير مستقل عن النشاط العقلي، وإن خمولا صغيرا للأمعاء يكفي لأن يتلف عقلا عبقريا، ولا يتوقف الأمر عند حدود النظام الغذائي، بل يشمل بقية التفاصيل التي تهم الجسد كالغذاء، النوم، المشي، ومجمل دقائق العناية بالذات. إن أسلوب تفكيرنا هو ثمرة كل الخبرات التي تتعرض لها أجسادنا في الحياة اليومية، من خبرات حسية وحركية وغذائية ونفسية وعصبية وتواصلية، فلا يوجد عقل مقابل الجسد، أو جسد مقابل العقل، لأن جسدك هو عقلك. لهذا كان أتباع المدرسة المشائية يمارسون التفكير أثناء المشي، اقتداء بأرسطو الذي كان يلقي دروسه ماشيا، وبرأيي أن توهم الفكر العميق منفصلا عن عادات الجسد المتوازنة لا يقود إلا لمثقفين على ورق ولكن مفلسين في إدارة الحياة الطبية، ولا تثقوا في فكرة لم تولد في الفضاء المفتوح والتحرك الحر، حيث تشارك العضلات في الاحتفال بتوليد الأفكار.