خُلِق الإنسان من مادّتين أساسيتين، هما: الروح والجسد، قال تعالى: {فإذا سَوَّيْتُهُ ونَفَخْتُ فيهِ مِن رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِين} (سورة الحجر آية 29). تلك النفخة الإلهية التي كرّم الله بها الكائن البشري، زوّدتْه بخصائص، أهمّها: العقل المنوط بالعلم والإرادة والتفكير، والوجدان وما يحمله من حبّ وكراهية، وغضب ورضا، وإحساس بالجمال، ونحو ذلك. وقد شرعت العبادات لكي تبقى الروح في ملكوتها الأنقى رفيعةً عن دنس ملذات الجسد، منعتقة من أسْر الرغبات الدنيا. أمّا وعاؤها، وهو الجسد فصحّته تكمن في إشباع حاجاته التي تضمن له البقاء، على أن تتحقق بالطُّرق المشروعة، فمثلاً كل الأكل والشرب حلال إلا ما ورد فيه نهيٌ، وهو مشروط أيضاً بعدم الإسراف، قال تعالى: {يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِين}. (سورة الأعراف آية 31). ومن الناحية العلمية، فإن المعدة حين تمتلئ بالطعام يعطي الدماغ أمره إلى القلب بضخ كمية كبيرة من الدم إلى الجهاز الهضمي لإتمام عملية الهضم ما ينتج عنه انخفاض في كمية العمليات الدماغية، فيحس الإنسان بالخمول الذهني، ويتشوش العقل، ويهبط مستوى التفكير، ويتدنّى الإبداع. فالبِطنة تُذهب الفِطنة، ولن يستعيد العقل صفاءه وطاقته إلا بعد أن تتخفّف المعدة من أثقالها، وهذا يتطلب وقتاً قد يقصر أو يطول حسب كميةِ الطعام ونوعه المدخَلةِ إليها، فإذا استعرضنا عاداتنا الغذائية، وفي رمضان على وجه الخصوص، فإننا غالباً لن نرى أثراً للعقل الذي شرّف الله به الإنسان، لأن إشباع الجسد استنزف جُلّ طاقته، وأصبح الجانب الروحي ضامراً، ومهما قضينا من وقت في التعبُّد فلن نُؤَمِّن للروح مطلبها من التحليق في فضاءاتها العليا، وسنكون كالطير الذي يحاول التحليق بجناح واحد. إن التهاون في المحافظة على التوازن بين متطلبات الروح وحاجات الجسد قد خلّف أزمة قيم لدى الإنسان المتحضر. وللحديث بقية.