لعلي لا أبالغ إذا قلت إن السعودية هي الدولة الوحيدة التي كشفت عري القوميين العرب، وتناقضاتهم المخجلة، وجعلتهم في حالة انكشاف فظيعة أمام الرأي العام، المتبصّر منه على الأقل، وكشفت سبب معاداة كل توجهات الرياض في المنطقة، والعالم. السبب ببساطة: لأنها السعودية. كانت أخبار طرد السفراء الأجانب، ومواجهة القوى الغربية، تحرّك الجماهير العربية، ولطالما وجد فيها المنتمون للأحزاب القومية العربية، ودعاتها، المحرّك الأكبر لماكيناتهم الإعلامية، وأعمالهم الفكرية. إنها الفكرة الأساسية لوجودهم: حياة نضال لكل ما يمثله المستعمر من طغيان، ومواجهة لكل القوى الكبرى بأي ثمن. وحين خاضت السعودية حربها المباشرة مع القوى غير العربية، وخصوصا إيران، وعدد من الدول الغربية الأخرى، ظهرت التيارات ذاتها للهجوم على المملكة، ودعوتها للحوار، والتعقل! قادت السعودية، خلال العقد الأخير، على أقل تقدير، الحملة العربية في مجابهة التهجم الفارسي على ما لا يقل عن أربع دول عربية، وتصارعت مع رئيس أمريكي، وهو أوباما، لسنوات في مواجهة أجندته التي كان يرغب في فرضها على المنطقة من خلال إطلاق يد إيران، وأحزاب الإسلام السياسي. بالرغم من ذلك كانت ماكينات القوميين العرب تحاول دوما التقليل من الجهود السعودية في خدمة القضايا العربية، والتركيز على أن السعودية ليست سوى حليف غربي. إن القوميين العرب يحاربون الغرب ولكنهم يرسلون أبناءهم إليه للهجرة والتعلم. وحين تحاول دولة تطوير قدراتها بأحدث التقنيات والعقول الغربية مثل السعودية فإنهم فورا يصمونها بالعمالة. إنها حالة تشبه حال بطل الرواية الشهيرة «دكتور جيكل ومستر هايد»، التي كانت صورة مجسدة لحالة الانفصام الخطيرة. وأرى للأسف أنها حالة منظورة في العالم العربي اليوم. نعم إسرائيل خطر، لكن الخطر الإسرائيلي لا يعني أن تغمض عينيك عن الخطر الإيراني، الذي يهدد فعليا المملكة، ومصالحها، منذ ربع قرن. كانت الإسطوانة القومية العربية أنه لابد من صلح مع إيران للتفرغ لإسرائيل. لكن السلوك الإيراني كان يجعل من هذا الأمر مستحيلا. لأنها السعودية يرونها لابد أن تكون تابعا. وأن تنضم إلى مغامراتهم متجاهلين دورها المحوري في التاريخ العربي. لا توجد دولة غامرت بمصالحها مع الغرب من أجل القضية الفلسطينية سوى السعودية. كانت الهجمة القومية العربية مسيئة، وتبدت صورتها واضحة في ترويج إشاعة «صفقة القرن» التي لم تحدث إلا في رؤوس مروجيها. وفي حادثة اختفاء صحافي سعودي قرروا من اللحظة الأولى أن الحكومة متهمة. إنني لا أعمم. هناك كثيرون في العالم العربي يرون أن المملكة واحدة من أسس النظام العربي. الحزام العربي كله يتهاوى. بالكاد تبقت أعمدة. ولهذا تبقى السعودية مهمة ليس لنفسها فحسب، بل للإقليم العربي ككل. الكارهون هم الكارهون. لا ننتظر منهم أن يتغيروا. لا يهم. المهم أن نبني عقولا وكفاءات، وأن نبرم الشراكات النافعة لمستقبلنا. أما أولئك المحرضون على المغامرات، فهم أول من سيتخلى عنا حين تحدث أزمة.