قبل عقدين من الزمان، كتبت مقالا تحت هذا العنوان : «تكتب حقيقتك وتمشي»، وكنت أعني بذلك حقيقتي الخاصة، وفي الحقيقة الخاصة قولان وأكثر، فهي إما أن تكون نصف حقيقة، أو أنها لا تمت إلى الحقيقة بأية صلة. ذلك أن الحقائق كما يقال أشياء مبعثرة، وإذا كان هذا القول صحيحا فعلينا أن نلم شتات تلك الأشياء المبعثرة بحثا عن حقيقة ما، وقد نرحل عن هذه الحياة قبل أن نكمل تلك المهمة الشاقة. فالحقيقة كما تعلمون مثل ليلى التي يدعي وصلها الجميع، و«كل يغني على ليلاه متخذا ليلى من الناس أو ليلى من الخشب». مع ذلك، يبالغ بعضهم في ادعاء ذلك الوصل، حتى لو كانت ليلاه من الخشب، وقد يخرج شاهرا سيفه، أو مطوَّقا بحزام ناسف، ليفرض حقيقته الخاصة على الناس. كان ذلك العنوان محاكاة لشعار كامل مروة «قل كلمتك وامشِ» وهي عبارة دفع مروة ثمنها غاليا. ولم أكن آنذاك، ولا الآن، في شجاعة ذلك الرجل. كان سؤالي، يوم كتبت تحت ذلك العنوان هو : أي الأذواق يحاول الكاتب أن يرضي؟ القارئ الذي يريدك أن تعبر عن موقفه من الحياة وفهمه لها، أم القارئ الذي يترك لك حرية الاختيار لتعبر عن موقفك وفهمك الخاص. ولأن رضا الناس مهمة صعبة، ربما تقلّ نسبة المسكوت عنه لو مارس حق التعبير في بيئة ثقافية أو اجتماعية منفتحةفأنت لا تستطيع الطبطبة على كل الأكتاف، أو ترضي كل الأذواق. اليوم، وأنا أتأمل ذلك العنوان أجده أقرب إلى روح الشعر منه إلى الواقع، لكن هذا لا ينأى به بعيدا عن مدار الحقيقة، إذا سلَّمنا بأن الشعر والحقيقة مترادفان، كما يرى أحد الشعراء. أجده، كذلك، تعبيرا عن بدايات حبلى بأحلام جريئة، واندفاعات طموحة لا تعترف بالمحال، ولا تعرف التسويات أو أنصاف المواقف. كانت أحلاما وتطلعات صادقة، لكن الأمر ليس بتلك السلاسة التي يقترحها العنوان، وهاأنذا بعد عقدين من الزمان أعيد صياغة العبارة لتصبح: «تكتب حقيقتك وتمشي.. إذا كان المشي ممكنا»! من السهل أن يدعي بعضهم تلك الشجاعة فيقول: «نعم.. أنا أستطيع»! لكننا لسنا بحاجة إلى جهاز كشف الكذب لنعرف نسبة المسكوت عنه في كتاباته وأحاديثه اليومية غير المكتوبة. ربما تقلّ نسبة المسكوت عنه لو مارس حق التعبير في بيئة ثقافية أو اجتماعية منفتحة، لكن ستبقى تلك الكوابح الاجتماعية والثقافية موجودة حتى في أكثر البيئات انفتاحا وتقبلا للاختلاف، وقد لا يختلف هذا الشخص الجَسورُ كثيرا عن ذلك المفكر الذي قال: «أعطي الإنسان النطقَ ليخفي أفكاره» أو لنقل بعض أفكاره حتى لا ترجح كفة المبالغة. ولولا ذلك، لما تحدث بعض الأسلاف عن «العلم المضنون به على غير أهله»، ولما قال فولتير: «ثمة حقائق لا تكون لجميع الناس، ولا تكون لجميع الأزمنة». وبعد : فإنه يتعذر أن تقول كلمتك وتمشي، ما لم يكن المشي ممكنا. [email protected]