يُنظر إلى الصمت في المجتمع العربي على أنه تقصيرٌ أو نقصٌ في المكانة الاجتماعية والثقافية. لذلك يدلي الفرد بدلوه، ولو كان الدلو مثقوبا أو فارغا. الآن، وقد أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي (هايد بارك) بحجم العالم يتسع لكل الآراء، صارت فرص التعبير متاحة لمن يريد أن (يضيف) ولو على طريقة سرحان عبد البصير: "هي رقَّاصة وبترقص"! ففي ذلك تأكيد للذات. ولعل إتاحة المجال لكل الآراء على تهافتها وبؤسها ورثاثتها أفضل بكثير من قمعها، "خلي اللي عايز يضيف.. يضيف" ما دامت تلك الإضافة لا تؤذي أحدا، ولا تسيء إلى مبدأ التعايش، أو تناقض شروط السِّلْم الاجتماعي. لكن، للأديب الأمريكي مارك توين عبارة ساخرة تخالف هذا الرأي فهو يقول: "نحب من يبدي رأيه بصراحة إذا كان رأيه كرأينا" وتعكس هذه العبارة التوجه السائد عند كثير من الناس. أما وجه السخرية في تلك العبارة فيتجلى في تلك الصراحة المشروطة أو المقيدة بأداة الشرط (إذا) في قوله: "إذا كان رأيه كرأينا"! والتي تحول الصراحة إلى شكل من أشكال الممالأة، فتفقد معناها وتنحرف عن هدفها. والعبارة نقد لاذع لأولئك الذين يظنون أنهم سدنة الحقيقة دون منازع. كان اختلاف الرأي سببا في كثير من الخصومات، مع ذلك يردد الناس البيت القائل: "اختلاف الرأي لا يفسد للودّ قضية". لا تصدقوا ذلك، فهي مجرد أمنية. أما ما يفسد الود عند الاختلاف فهو شعور بعضهم أن المساس بآرائه هو مساس بذاته وجرحها، وهو ما يسمى في علم النفس ب (الجرح النرجسي) أي المساس بالاعتبار الذاتي بشكل يسبب آلاما معنوية. إن العدوانية، والحال هذه، هي منتج رئيس لهذا الجرح، لذلك يتحول تأكيد الذات والدفاع عنها إلى شكل من أشكال العداء. وفي مثل هذه الحالة المَرَضية يصبح الاختلاف في الرأي سببا في تَردّي العلاقة بالآخر. قريبا من نهاية الثمانينيات اقترح عليَّ الصديق الدكتور عبد الواحد الحميد أن أكتب لصفحة الرأي، أي أن أتزحزح قليلا عن صفحات الثقافة. وكان، آنذاك، نائبا لرئيس تحرير جريدة اليوم، أي قبل أن (تختطفه) غرفة التجارة، ثم يستحوذ على وقته مجلس الشورى، ثم يغرق في محيط وزارة العمل. قلت له مداعبا: "لا رأي لمن لا يطاع" لكني قبلتُ باقتراحه، وإيغالا في الدعابة كتبتُ مقالا بعنوان (ليس على وجه التحديد) في إشارة إلى زاويته الصحفية المعنونة (على وجه التحديد) وتعليقا على عبارة "لا رأي لمن لا يطاع" قص علي حكاية رجل شمالي طاعن في السن يستشيره الأبناء في بعض قضاياهم لكنهم في النهاية يعملون برأيهم. زرعوا في حديقة المنزل زهورا، ورأى الوالد أن يزرعوا بطيخا على سبيل المثال فهو أكثر نفعا! وخلاصة ذلك أن الناس، ومنذ القدم، مشغولون بالمفاضلة بين أمور كثيرة شبيهة بالمفاضلة العبثية بين البطيخ والزهور. ومنذ القدم، أيضا، والناس تختلف وتتقاتل على أمور شبيهة بالاختلاف على أيهما أسبق البيضة أم الدجاجة؟ لكن أسوأ سجال هو ذلك الذي يلجأ إلى العنف، سواء كان ذلك العنف لغويا أم جسديا يستبدل الكلمات باللكمات. [email protected]