لم يكفّ قمر الزمان عن تكرار عبارة «أعوذ بالله من كلمة أنا». «يعوذ منها» ثم «يعود إليها»! ولم يجد الحضور في حديثه الإيجابي عن نفسه، أو السلبي عن غيره، ذرَّة من التواضع. ذلك أن من علامات التواضع عدم المبالغة في تقدير ما ننجز، وترك مسألة تقييمه للآخرين، والاعتراف بأسبقية الآخرين إذا كانوا سبّاقين، وبتميزهم إذا كانوا متميزين. ومن تلك العلامات أيضا التراجع عن رأي سابق ثبت تهافته، وإعلان ذلك جهارا نهارا. لكنه تواضع لا يطيقه إلا الكبار. ولكي لا يكون الحديث عن تواضع الكبار إنشائيا أو وعظيا سأختار شواهد من أقوالهم ومواقفهم. يحضرني عن «عدم المبالغة في تقدير المنجَز» مثال واحد من حوار أجراه ويليس بارنستون مع الكاتب الأرجنتيني بورخيس. يقول بورخيس تعليقا على تقييم بارنستون لبعض قصائده الجديدة: «أنت ترى إلى قصائدي على أنها جيدة، أنت قرأتها في ضوء القصائد المبكرة، في حين لو أنها أتت إليك على أنها مكتوبة من قبل شاعر مغمور فسوف ترميها جانبا». وعندما سأله ريتشارد كيرني «هل تعتقد أن لجويس تأثيره على أسلوبك في الكتابة؟» أجاب: «أنا لا أعتبر نفسي كاتبا. أنا لا أكتب مادة في غاية الجودة. لابد من وجود خطأ ما.. ربما أخطأ الناس معتقدين أنني شخص آخر، كاتب آخر». ويرد كيرني مازحا: «ربما يكون بورخيس من كتَبَ أعمالك وليس أنت»!! وبخلاف هذا الموقف، قد يختصر قمر الزمان الكتابة والثقافة والحداثة كلها في شخصه دون أن يرفّ له جفن. أما عن الاعتراف بأسبقية الآخرين، فنلاحظه في هذا الحوار الدائر بين ديدييه إريبون وكلود ليفي شتراوس. يسأل إريبون قائلا: «ألم تصبح أبدا صديقا لسيمون دو بوفوار؟» فيجيب شتراوس: «أبدا! لكن ليس بشكل عدائي».. ويستوضح إريبون قائلا: «لم تتفاهما؟»، فيجيب شتراوس: «ليس هذا أيضا. فهي وسارتر أصبحا شهيرين سريعا. كانا يحتلان مكانة أعلى مني في الحياة الثقافية. كانا مجليين»! وأما التراجع عن رأي أو موقفٍ ثبت ضعفه أو تهافته، فيلاحظ في قول شتراوس عن نص له بعنوان (النسرين): «أفضّل أن أنسى وجوده»! وحين سئل: «ألم تستهوك البرغسونية» (فلسفة برغسون) قال: «لا. بل إنني كنت أشعر بالعداء لها. حيث كان يبدو لي أنها تترك المكان الأجمل للظواهر وللوعي المباشر.. لقد فهمتها فيما بعد بشكل أفضل. وامتدحتها في (كتابي) الطوطمية اليوم.» أما شاعر الهند الكبير طاغور فيتحدث عن حماقاته المقترنة بغطرسة وغرور الشباب قائلا: «كتبتُ نقدا حول «ميجهنادباد» وهي ملحمة شعرية شهيرة. «وكما الحموضة من صفات المانجو الفجة، فإن التعسفات كذلك من صفات النقد غير الناضج. حين لا تتوفر القوى الأخرى، يبدو أن قوة الوخز تزداد حدة، وهكذا حاولت الحصول على الخلود بترك خدوشي على ملحمة خالدة. كانت هذه الصفاقة النقدية أول مساهماتي»! هكذا يتحدث طاغور عن «الصورة المضخمة لذاته الضبابية» قبل النضج. وبعد: متى أستطيع التخلص من (عقدة قمر الزمان) لتصبح النفس بتلك الصلابة، ولترتقي إلى ذلك المستوى من الشفافية في نقد الذات! [email protected]