تحدثنا في المقالة السابقة عن معالجة بعض الفلاسفة لبعض الأمراض النفسية والاجتماعية، والتي لم يتطرق لها علم النفس أو علم الاجتماع، أو ربما تطرق إليها من زوايا مختلفة، مثل: مرض قلق السعي إلى المكانة الاجتماعية، وأتينا ببعض الأمثلة لأقوال بعض الفلاسفة، وأنه يجب على الفرد ألا يعبأ كثيرا بهذه المكانة المفروضة من قبل المجتمع. ولكن هذا لا يعني أن الفلاسفة يلغون وجود أي سلم اجتماعي أو مكانة اجتماعية موجودة في مجتمع ما، إنما كانت رؤيتهم تختلف إليها عما هو متعارف عليه بين المجتمع. يقول آلان دو بوتون «كان هؤلاء الفلاسفة أبعد ما يكونون عن الرفض التام لأي تراتبية في النجاح والفشل، غير أنهم بالأحرى يعيدون صياغة آلية الحكم، فمنحوا بذلك شرعية للفكرة القائلة بأن نظام القيم السائد قد يكون ظالما في إنزاله الخزي ببعض الناس وتكليل آخرين بالشرف والتقدير. وبخصوص الظلم ربما يساعدنا تأمل فكرة أننا قد نكون محبوبين حتى إن لم نحظ بهالة من مديح الآخرين واستحسانهم». هناك أمر آخر وهو عدم إنكار الفلسفة جدوى القلق في هذا الموضوع، ولكنها نظرت إليه من منظار إيجابي، أي بشرط أن يكون القلق محفزا وهادفا لأمر حقيقي وليس مزيفا، لتحقيق ذواتنا. كما أن الفلسفة لم تنكر أهمية النقد من قبل الآخرين لنا، ولكن بشرط أن يكون نقدا وجيها ومبنيا على أسس سليمة، لأن كثيرا من الفلاسفة لا يثقون بآراء العامة ويشككون في جدواها، لأن هذه الآراء في الغالب مبنية على رأي الأكثرية، ورأي الأكثرية ليس دليلا على صحة هذا الرأي، كما أن الآراء في الغالب متوارثة ضمن العادات والتقاليد الموجودة في المجتمع، ناهيك عن أن هذه المعايير السائدة في المجتمع ليست بالضرورة هي معايير صحيحة، وهي متغيرة من مجتمع لآخر ومتغيرة من زمان إلى آخر. يقول آلان دو بوتون «في المجتمعات الإسبانية التقليدية لكي يكون الرجل جديرا بالأونرا أو الشرف، ينبغي له أن يكون شجاعا جسديا، ووحشا مفترسا إزاء النساء قبل زواجه»، هذا هو المعيار السائد آنذاك، ويستشهد بوتون بقول شوبنهاور في نقده لمعايير مجتمعه في قوله «لقد أصبحت التسلية الأساسية للمجتمع في كل بلد الآن هي لعب الورق، وهو معيار لقيمة المجتمع ومكانته، وإشهار وإفلاس جميع الأفكار والتصورات. وعلاوة على هذا، فإن لاعبي الورق أنفسهم غالبا ما يتصفون بالمكر وانعدام الخلق». لذا، يجب ألا نشغل أنفسنا ببعض المعايير السائدة في المجتمع للأسباب المذكورة أعلاه أو كما قال بوتون «علينا أن نتخلى عن هوسنا الصبياني بحماية ومراقبة مكانتنا وكأننا لسنا سوى شرطة مراقبة هذه المكانة وهي مهمة مستحيلة على أي حال، إذ تشترط ولو نظريا أن نبارز كل من تخطر له فكرة سلبية بشأننا، نبارزه، وأن نرضى بدلا من ذلك بمشاعر الرضا المبنية على أرض أشد صلابة، والنابعة من إحساس بالقيمة عماده المنطق بالأساس».