عنددما يرد على ذاكرتي بيت شوقي الذي يسأل فيه: أعَلِمْتَ أشْرَفَ أو أجَلَّ مِنَ الذي يَبْنِي ويُنْشِئُ أنْفُساً وعُقُولا؟ تنثال على الذاكرة ملامح من خطواتي الأولى في التعليم، وأتذكر ما كنا نعيشه ونعيه عن مكانة المعلم في نفوس التلاميذ، بما يكنّون له من احترام ممزوج بالخوف، كما هو شعورهم تجاه آبائهم، ولم يكن المعلم سوى أب ثانٍ للتلميذ، يكمل رسالة الأبوة في المدرسة، كما هو حال الأب في المنزل، وربما كانت سطوة الملعم التربوية أكثر مما هي سطوة الأب ذاته، في ذلك الزمن الذي ابتعدنا عنه بما يقرب من نصف قرن أو يزيد. في بداية الأسبوع الماضي راودتني هذه الخواطر عندما نقل إليّ الشيخ صالح الجطيلي قاضي الاستئناف بالمدينة المنورة وهو صديق وزميل عمل في القضاء مع الشيخ صلاح البدير إمام وخطيب المسجد النبوي.. نبأ رحيل والد الشيخ صلاح.. الأستاذ الجليل محمد بن محمد البدير، عن عمر اقترب من التسعين عاما، فهو من مواليد 1339ه وكان الراحل أحد رجال التعليم في الأحساء الذين شرفهم الله بهذه المهنة، وقاموا بواجباتها خير قيام، فعملوا بصمت، وأخلصوا في عملهم بحب وإخلاص لمهنة هي من أشرف المهن، وعلى يديه تخرجت أجيال أسهمت في بناء النهضة الشاملة التي عمت هذا الوطن العزيز. وقد كنت أحد تلاميذ الراحل الأستاذ البدير - رحمه الله - في مدرسة الجشة الابتدائية في أوائل خمسينيات القرن الميلادي المنصرم، والتي ضمت نخبة من خيرة المعلمين، في مسيرة تعليمية عطرة، ومن قادتها سليمان المطلق وحمد العمر ويوسف بن فهد الهلال، ومن فرسانها محمد البدير وفهد الوهيب وخليفة السليم وعبدالرحمن المخيلد وعبدالله المقرني وعبدالله الرشيد وغيرهم، ممن أدوا الأمانة، فنالوا السمعة الطيبة والذكر الحسن.. ولأن الأستاذ البدير كان يتمتع بخط جميل في الكتابة.. فقد تولى تعليم مادة الخط، التي كانت درسا إلزاميا، كما هي بقية الدروس المقررة، وكان رحمه الله حريصا على أن يتقن تلاميذه الخط، بالمحافظة على دقته وجماله، والتقيد بقواعد كتابة حروفه، وللخط حينها «كراسة» يبدأ التلاميذ في التدرب عليها منذ الصف الثالث الابتدائي، ذات مراحل مختلفة، ولم يكن للتلميذ حق الانتقال لمرحلة متقدمة إلا عندما يكتب له المعلم كلمة (غيّر) وربما أمضى التلميذ فصلا دراسيا كاملا دون أن ينال شرف التغيير إلى مرحلة متقدمة في الخط، وهذا ما يفسر حسن الخط عند أوائل المتعلمين قبل إلغاء مادة الخط. هذا المعلم الذي فقدناه، كان يتمتع بشخصية متفردة حيث يغلب عليه هدوء الطبع، وحسن المعاملة، والتزام الصمت عندما لا يكون للكلام معنى، فإذا تكلم أحسن الكلام، بالحكمة المقنعة والرأي السديد، وكأنه قد اتخذ لنفسه شعار (خير الكلام ما قل ودل) وهو في ورعه وعمق إيمانه.. بعيد كل البعد عن الانفعال الذي قد ينتاب بعض المعلمين، في تعاملهم مع التلاميذ.. دون أن يتهاون مع المقصرين، وإن أنس لا أنسى عصاه التي كان يستخدمها بيده اليسرى لتأديب التلاميذ المقصرين، ولكن بحنان أبوي واضح. والعصا من علامات المعلم الجاد في ذلك الوقت، حينما كان الضرب للتأديب وليس للتعذيب. وعندما اختفت العصا، اختفت معها هيبة المعلم، وكأن المزاج العام في المجتمع، لا يعترف بالنظريات التربوية الحديثة. برحيل أستاذنا البدير.. فقدت الأحساء واحداً من جنودها المجهولين، العاملين بصمت، والذين أسهموا في مسيرة التعليم في هذا الجزء من بلادنا العزيزة، يوم كانت وفود الطلبة تتقاطر على الأحساء من مختلف المدن المجاورة، حين بدأ التعليم فيها قبل غيرها، عندما افتتحت بها مدرسة الهفوف الأولى عام 1356 وفي أبناء الراحل الأفاضل: عبدالله وعبدالرحيم ونبيل وصلاح وسعد، وبناته الفضليات.. العوض في فقده. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.