الطفل صاحب مخيلة وثابة متوهجة لا تركن إلى الخمول، تستثيرها كل الأشياء التي تحيط بعالمه، في المنزل في الشارع في المدرسة والأماكن العامة. حواسه وإدراكه وشعوره هي الأرضية التي تتحرك فوقها براءة أسئلته وعفوية ملاحظاته وردود أفعاله ودهشته، وهذه في مجملها مظاهر تلك المخيلة. فمثلا، عندما تجد نفسك أمام طفل يمشي بهدوء تام وسط الشارع دون أن يشعر بخطر السيارات العابرة حوله، فهذا النوع من السلوك يسمى طفوليا؛ لأنه لا ينتمي إلى مرحلة وعي الطفل بأناه، وإنما إلى مرحلة وعي الطفل بمخيلته التي تتحكم به وبسلوكه. والفرق بين المرحلتين هو كلما كبر الإنسان في العمر اكتسب خبرات حياتية ومعارف عقلية وروحية وعلاقات اجتماعية، وهذه بدورها هي المقصودة كلما نطق شخص وقال: أنا أحب الأشياء أن تكون بهذه الصورة وليست بتلك، أو أكره الأمور بهذه الطريقة وليست بتلك، وهكذا دواليك. بينما في الجانب الآخر يختفي وهج المخيلة وتخبو فورتها شيئا فشيئا مع التقدم في العمر. صحيح أن الإنسانية عبر تاريخها قدمت استثناءات شذت عن القاعدة، حيث نجد الكثير منهم لم تخب مخيلتهم ولم ينطفئ وهجها وتدفقها وليس أدل من ذلك سوى الشعراء والمبدعين الذين ارتبطوا بجميع الفنون، حتى الكتاب والمفكرون والفلاسفة هم أيضا لم تخب مخيلتهم بما تركته من أثر كبير على ما أنجزوه من معرفة. لكن الحالة العامة عند عامة الناس هي كما قال علماء النفس التقدم في السن يقلل من وهج المخيلة. هناك بالطبع أمثلة عديدة وصور مختلفة يمكن سردها عن كيفية عمل مخيلة الطفل سواء في المنزل أو في المدرسة، بحيث تعطينا مؤشرا على قوة تأثيرها وسطوة انفعالاتها. وكوني معلما سأضع هنا تجربة قمت بها بنفسي مع طلابي في الصف الرابع الابتدائي، حيث كنت أخصص حصة أو حصتين لابتكار قصص وحكايات كنت استوحيها من عالم ألف ليلة وليلة. لكنني كنت أتوقف عن سردها في لحظة يكونون فيها متشوقين ومشدودين وحواسهم متفتحة عن آخرها، ثم أترك لهم الخيار أن يقترحوا تكميل الحكاية من فضاء مخيلتهم، والمفاجأة لي أنني وجدت البعض منهم ينهي الحكاية مع تطابق شبه تام كما وردت في نصوص ألف ليلة وليلة، رغم أن الطالب لم يسمع عنها إلا عبر لساني. ناهيك عن التنوع في الاقتراحات الغنية بعناصر المخيلة التي استقبلتها من مختلف الطلاب. هذه التجربة دليل -على الأقل بالنسبة لي- على أن الطفل لا يحتاج في مثل هذه المرحلة سوى إلى منبهات أو محفزات تجعل مخيلته تعمل بجد، وتجعلها دائما على استعداد للابتكار والإبداع. الوسائل البصرية هي المنبه الأكبر في الوقت الراهن. السينما، زيارة المتاحف والمسارح، المعارض التشكيلية، الحفلات الموسيقية هي هذه المحفزات من العمق.