بوسعنا أن نقيس ما لدينا من رصيد الحكمة إذا استعرضنا بعض المواقف الصعبة التي مرت بنا، وكيف كان تصرفنا تجاهها؟ لنأخذ مثالا من تلك المواقف حياتنا الأسرية حيث العلاقات اليومية بين الأزواج أو بين الأبوين والأولاد، وهذه العلاقات اختبار حقيقي لمدى ما نتمتع به من حكمة، لاسيما عندما ينشب خلاف بين هذه الأطراف، وفي أحيان كثيرة نلجأ إلى خيار القوة لحسم الخلاف لكن على حساب ضمور العلاقة وذبول المشاعر. لو تصورنا وجود طرف ثالث كضيف- مثلا- ممن له عندنا قدر ومنزلة، فسنكون في هذه الحالة أكثر اهتماما بتوخى ما نستطيع من لباقة الحكمة. فماذا لو ارتقينا في وعينا بالحضور الإلهي في هذا الموقف.. أليس هذا أولى بأن نكون أكثر حرصا على التصرف الحكيم؟ هذه المعاني تجدها في الوحى الأعلى: { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} سورة الفرقان (20). فالقرآن ينبهنا أن ما بيننا علاقات (فتنة) أي اختبار، ويوصينا بالصبر حتى لا نعجل بتصرف أهوج، ثم ينبهنا إلى اطلاع الله على ما يكون بيننا من تفاعل.. { وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}. إن ميزان الحكمة يقتضي أن يكون التعامل مع الآخرين على قاعدة الإنصاف فتعاملهم بمثل ما تحب أن يعاملوك به، أو بقاعدة أن نربح معا؛ سعيا لحلول تعود بمنفعة مشتركة وتحقق رضا الجانبين، أما أن نظل في منطقة أنانية الذات فسوف تكون النتائج محبطة. وكمال الإيمان جاء في بيان النبوة تقريرا للتوازن في العلاقة بينك وبين الناس: (لا يُؤْمِنُ أَحدُكُمْ حتَّى يُحِبَّ لأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) متفق عليه. وهناك اعتبار آخر وهو مراعاة النتائج ليس على المدى القصير ولكن أيضا على المدى البعيد فيما يتعلق ببناء العلاقات واصلاحها، وهو أمر يلزمه بعض الوقت، باعتباره استثمارا طويل الأجل، والعجلة في محاولة التغيير قد تفضي إلى عواقب خطيرة، ومن جميل ما يروى من الحكمة أن ابنا متحمسا قال لأبيه عمر بن عبدالعزيز: يا أبت، مالك لا تنفذ في الأمور، فو الله لا أبالي في الحق لو غلت بي وبك القدور. قال له عمر: «لا تعجل يا بني، فإن الله تعالى ذم الخمر في القرآن مرتين وحرّمها في الثالثة، وأنا أخاف أن أحمل الناس على الحق جملة فيدفعوه وتكون فتنة». لقد أكد علماء النفس على مسألة الموازنة بين الأمور باعتبارها هي الحكمة الحقيقية، يعتقد عالم النفس روبرت ستيرنبيرغ Robert Sternberg من جامعة كورنيل Cornell University بالولايات المتحدة، أن الحكمة ما هي إلا القدرة على الموازنة بين الأمور. ويرى ستيرنبيرغ أن الشخص الحكيم هو الشخص الذي لديه القدرة على الموازنة العقلية بين نتائج الأمور على المدى القصير والمدى البعيد، وبين المصلحة الشخصية ومصالح الآخرين، وذلك مع التفكير في جميع الخيارات المتاحة، وفقا للوضع القائم، أو من خلال السعي لتشكيل وضع جديد. بوسعك أن تكون أكثر حكمة، بهذا الاتزان في المواقف وستظفر بالحكمة، ولو بعد حين.