في ضوء ما تمر به الأمة من محن وفتن عمياء، وفي ظل انتشار فكر الغلو والتطرف، وتغلغله بين فئات الشباب في البلاد الإسلامية وخارجها، كان لا بد من وقفة مع فلسفة الدعوة الإسلامية، وأسلوبها ومقاصدها السامية، نسعى من خلالها لتسليط بعض الأضواء الهادفة، وتأكيد الحقيقة السمحاء لهذا الدين الحنيف. قال تعالى في محكم كتابه المجيد: (ولتكن منكم أمَّة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون) (آل عمران/104). بداية، يجب التنبيه إلى أن الدعوة الإسلامية مصطلح عريض، يتسع لقدر كبير من المعاني والإيحاءات. وهو على درجة من المرونة التي يُمكن معها استخدامه للحديث عن طيف واسع من القضايا الإسلامية المعاصرة، التي يجري التعبير عنها غالباً بقضايا الدعوة. والدعوة جزء من مرتكزات العقيدة، بقدر كونها أداة من أدوات صونها، وسبيل لا غنى عنه لإدامة ارتباطها بالعصر والحياة. والإسلام من دون الدعوة لا يعني سوى التصاق قسري بالماضي، وانغلاق على الحضارة والتطوّر الإنساني. والدعوة بهذا المعنى لا تعني بناء الفرد وحسب، بل أيضاً تهيئة البيئة الحضارية اللازمة لتطوره، وتحقيق سعادته في الحياة. وإذا كانت الدعوة إلى الخير هدفاً من أهداف الإسلام من أجل شمول الخير للحياة، فإنَّ من البديهي أن تبرز من داخل الأمة طليعة متنورة تتبنى نهج الدعوة إلى اللّه سبحانه وتعالى حسب الظروف الموضوعية المحيطة. أما حجم الخير ومداه ونوعيته، فإنه يتّسع سعة الإسلام في عقيدته وشريعته وحركته الشاملة للحياة. وأما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد يلتقيان بالدعوة إلى الخير في الجانب الذي تفرضه الدعوة للمعروف وللبُعد عن المنكر بالكلمة وأمثالها، مما يُكوّن حركة إيجابية نحو الخير والمعروف، وحركة سلبية ضد الشر والمنكر. وقد ختمت الآية هذه الدعوة بإعطاء هؤلاء الذين يقومون بهذه المهمة صفة الفلاح بقوله: (وأولئك هم المفلحون) للإيحاء بأن هذه الدعوة للخير والممارسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمثل خطّ الفلاح للقائمين بها. لا بد للداعية، من الصبر والاستقامة على طريق نشر دعوته الحقة بين الناس، حيث دعا الله سبحانه نبيه وعباده الصالحين للسير قدماً على طريق الهدى والدعوة للحق، دونما ميل لهوى، أو استكانة لضغوط وصعاب، مهما بدت عاتية يقول سبحانه وتعالى عن حديثه عن الشهداء على الأمة: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً)، يشهد على أعمالها ومواقفها وعلاقاتها في حركة الحق والباطل والكفر والإيمان، ليقدّم لله سبحانه وتعالى حساب المرحلة الزمنية التي شهد أحداثها في أمته، وقد يكون هذا الشاهد نبياً، أو إماماً، أو عالماً، وقد تمثله الطليعة الصالحة التي ترشد الأمة إلى الطريق المستقيم. وقد أمر الإسلام أتباعه بالدعوة إلى الله بالحكمة، انسجاماً مع قوله تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هيَ أَحْسَنُ). وقد وضع اللغويون لكلمة الحكمة معاني كثيرة، واعتبروا أن أقرب المفاهيم من لفظ "الحكمة" هو "وضع الشيء في موضعه" أو "صواب الأمر وسداده". وهناك من يرى أن منطوق الحكمة يتسع بالضرورة لما هو أبعد من هذا التعريف، مثل «الخبرة» و «المران» و «التجربة»، فيعتبر الإنسان الحاصل على هذه الملكات إنساناً حكيماً، لأن له من تجاربه وخبرته ومرانه ما يساعده على إعطاء الرأي الصائب. وعليه يمكن – حسب هؤلاء- معرفة وجه إطلاق هذا اللفظ على «الكلام الموافق للحق» باعتباره إرجاعاً للأمر إلى نصابه، ووضعاً للحق في موضعه، أو باعتباره صواباً وسداداً. وعليه يُمكن إطلاق هذه الصفة على العالم والعادل والحليم والنبيّ، لأن امتلاك الإنسان لمبادئ العلم والعدل والحلم والدعوة، تؤهله لأن يضع الأشياء في مواضعها، في العلم عندما يبحث ويفكر، وفي الحلم عندما يعفو ويسامح، وفي العدل عندما يقضي ويحكم، وفي الدعوة عندما يدعو ويبلّغ. ومن هنا، جاء قوله تعالى: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً) [البقرة:269]، ويبدو من خلال ما تقدم حول مفهوم الكلمة، أنها تعبير عن طبيعة أسلوب الدعوة الإسلامية وضرورة اتصافه بالحكمة، وسلوكه طريقها. ومن الحكمة إلى الموعظة الحسنة، يرى بعض المفسرين أن الوعظ الحسن هو الصرف عن القبيح على وجه الترغيب في تركه، والتزهيد في فعله. وفي ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع. أما قوله تعالى (وَجَادِلْهُم بِالَّتي هِيَ أَحْسَنُ)، فهي إرشاد إلى الطرق التي يواجه بها الداعية المسلم رد فعل المخاطَب على الدعوة نفسها. وهنا، يجري التأكيد على ضرورة أن يتقبل الداعية بصدر رحب مهاجمة دعوته من قبل خصومها كأمر طبيعي ومتوقع. ومن وظيفته كداعية أن يكسب هؤلاء الخصوم إلى صف الدعوة، ويقربهم إلى عقيدتها، ويربح فكرهم وإيمانهم، لا أن يحطمهم ويغلبهم، فليست وظيفة الداعية أن ينشد الغلبة على خصمه من أجل إشباع نزوعه إلى التفوق وإحساسه بالعظمة، بل ممارسة إنسانيته بإعانة خصمه على التحرر من رواسب كفره، والأخذ بيده إلى سواء السبيل. وإذا خلصنا إلى القول بأن الدعوة إلى الله واجب، وفرض على الأمة النهوض به، فإن الإسلام الحنيف يؤكد، في الوقت ذاته، عدم جواز اللجوء إلى القوة لفرض الدين وتجسيده في الحياة العامة. فقد قال تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (البقرة/256). وقال عز وجل:(أفأنت تكره النّاس حتى يكونوا مؤمنين) [يونس/99]. ويرى المفسرون أن نفي الإكراه الوارد هنا يشير إلى إعطاء الناس فرصة الاختيار على أساس تقديم البراهين على ما في الدين من الحق، وما في الكفر من الباطل، مع التأكيد على أن الاختيار المضاد يستتبع المسؤولية بالعقاب في الآخرة، فضلاً عن تداعياته السيئة على حياة الإنسان في الدنيا. وفي الأصل، هناك الكثير مما يدعم حجة الدين من خلال وضوحه في مقابل الكفر، فلا معنى للإكراه على أيّ حال، لأن الدعوة إليه تنسجم مع الطبيعة الذاتية لعلاقة الفكر بالقناعة الدينية – كما يقول أهل العلم. ومن المنطلقات والمبادئ العامة إلى الغايات النهائية، يؤكد القرآن الكريم على أن أهداف الدعوة الإسلامية تشمل الحياة كلّها، وتستهدف تغيير معالمها نحو النهج القويم. قال تعالى: (كان النّاس أمّة واحدة فبعث اللّه النَّبيِّين مبشِّرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحقِّ ليحكم بين النّاس فيما اختلفوا فيه. وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البيِّنات بغياً بينهم فهدى اللّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه واللّه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم) (البقرة:213). وقال عز وجل: (إنّا أنزلنا إليك الكتاب بالحقِّ لتحكم بين النّاس بما أراك اللّه ولا تكن للخائنين خصيماً) (النساء:105). وقال سبحانه وتعالى:(الذين يتَّبعون الرّسول النبيّ الأمّيَّ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحلُّ لهم الطيّبات ويُحرِّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم).(الأعراف:157). وهكذا، فإن الرسالة الإسلامية تهدف إلى بناء نظام شامل للحياة، تتكامل فيه المادة والروح، والفرد والمجتمع، ويقام فيه العدل والقسط، وتتعاون فيه الأمم والشعوب فيما بينها. وفي إطار هدفها لبناء الإنسان الفاعل والمبدع، سعت الرسالة الإسلامية السمحاء إلى صنع العقل الإنساني وتنميته وتطويره، ومنحه الحرية، ذلك أن الله سبحانه وتعالى لم يمنح الحرية المطلقة لأعضاء الإنسان، بل جعل لكل عضو حدوداً لا يجوز له أن يتجاوزها، سواء في العينين فيما ينظر إليه، أو في الأذنين فيما يسمع بهما، أو في يديه ورجليه وكل أجهزة جسمه، حيث جعل الله لكل واحد من هذه الأعضاء حدوداً، ولم يطلق الحرية المطلقة إلا للعقل، فالإسلام – كما يؤكد الفلاسفة المسلمون - أعطى للعقل حريته في أن يفكر في كل شيء، ولم يجعل له آفاقاً ضيقة بُحشر في داخلها. وفي الختام، لا بد للداعية، من الصبر والاستقامة على طريق نشر دعوته الحقة بين الناس، حيث دعا الله سبحانه نبيه وعباده الصالحين للسير قدماً على طريق الهدى والدعوة للحق، دونما ميل لهوى، أو استكانة لضغوط وصعاب، مهما بدت عاتية. يقول تعالى في محكم كتابه المجيد:(فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعملون بصير) (هود/112). ويقول عز وجل: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزّل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون* نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة ولكم فيها ما تشتهي أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون* نزلاً من غفور رحيم) (فصلت/30-32). وإذا كان في هذه الأرض من يملك القوة الماديّة التي تغلب قوة مادية أخرى، فإن اللّه يملك القوة الغيبية التي لا تُغلب، والتي يتسلح بها المؤمنون، بموازاة ما يجب عليهم إعداده من عناصر قوة مادية، يسعون إليها ويتدبرون أمرها، كجز من عبادتهم وطاعتهم لله تعالى. وإن التوكل على الله عنصر قوة في الإنسان المؤمن، يبعد عنه عوامل الضعف والاستكانة والشعور باليأس، فينطلق إلى الحياة بثقة فاعلة، وموقف ثابت لا ارتجاف فيه. وهذه من صفات عباد الله، الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.