ينظر رجلان من النافذة في يوم ممطر فيصيح أحدهم: كم هي مزعجة تلك الأمطار فقد أغرقت الشوارع وأربكت المرور، بينما يتنهد الآخر ببهجة قائلا: كم أشعر بالسعادة لارتواء الحقول بماء المطر ولجمال قوس قزح في السماء. لقد اختلف تقييم الرجلين لنفس التجربة لاختلاف الاتجاه الذي تم التركيز عليه، فانتقائية الإدراك كالكاميرا التي لا تلتقط إلا جزءا محددا من المنظر. فلو ذهبت إلى حفل كبير مزدحم بالناس ولمحت في إحدى الزوايا بضعة أشخاص يتجادلون بقوة وصوت عال مع احتداد انفعالاتهم، وقمت بالتقاط صورة لهم، فذلك سيمكنك من وصف الحفلة لأصدقائك بأنها كانت فاشلة ذات أجواء مزعجة، والصورة تؤكد ذلك، وسيقتنعون برأيك. لقد قمت بتعميم جزء من التجربة وجعلتها تقييما شموليا لكامل الموقف، وربما لم يكن تعميمك من فراغ، بل من مشاعر غير صافية نحو صاحب الدعوة أو قناعات مترسخة عن هذه الاجتماعات، وساهمت رغبتك الشخصية في إقناع من حولك بمصداقيتك، ففكرتك السلبية المسبقة المترسخة في اللا وعي جعلتك تبحث عما يتناسب معها، وأعاقت وعيك عن رؤية كامل التجربة لوجود حاجز إسمنتي فاصل بين الوعي واللا وعي. يعمل إدراكنا بشكل انتقائي مبرمج على قناعاته المسبقة، التي تعمل كمرشحات غير واعية لتجارب الحياة، فاللا وعي لا يعترف بوجود ما يتناقض مع برمجته حتى ولو كانت الحواس تلمس أمورا مغايرة. الخطورة هنا أن رأيك قد يجعل بعضهم يستوعب التجربة من منظورك، ويعمم ذلك دون أن يمنح نفسه الفرصة لاختبار التجربة بنفسه. وهنا يأتي دور مسؤولية الكلمة التي قد تختزل أو تشوه موقفا يستشري ويتوسع مداه ولا يعلم منتهاه. نحن لا نرى العالم بعيوننا بل بعقولنا ومبرمجاتنا السابقة التي تبحث عما يؤكد مصداقيتها، ويتغافل عما يخالفها، وقد يكون ذلك ما قصده الشاعر حين قال: عين الرضى عّن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا