الدنيا مسرح كبير، والناس عليه ممثلون، لكن مَنْ يجيد تقديم الدور النقي أصبح غبيًا، ومَنْ يجيد الدور الفاسد أصبح شاطرا، فالمعايير اختلفت، والأحكام تغيرت، ويبدو أن (الماسخ) أصبح حلوا، والسكر أصبح مرًا، حتى الأذواق شعرنا بها بالمقلوب في زمن نسير فيه عكس الاتجاه. خشبة المسرح دوما تئن بأولئك الممثلين، الذين يجيدون دور الكومبارس ولا يتقنون دور البطولة، لذلك تجد النص ضعيفًا والمخرج لا يجيد توزيع الأدوار ويكتفى بالفرجة على مشاهد مرتبكة دون أن يتدخل لإصلاح الخلل. مصيبة أن يعتقد «الكومبارس» أنه بطل على خشبة المسرح، فيمارس البلطجة في مشهد ينكس العقلاء الرؤوس، ويهلل الأغبياء فرحًا وطربًا ليؤكدوا المثل الشعبي الشهير «رزق الهبل على المجانين». فالواهمون كثر على خارطة الطريق، والفاشلون يزدحمون على الأرصفة، يجيدون الرمي لفظًا وكتابة، وأحيانا حجرا وعنفا، لأولئك المارة المحملين بأرتال النجاح. كثير من أولئك الذين يقومون بدور «الكومبارس» أصبحوا أبطالًا وتقدموا الصفوف، بل دورهم تحول من تابع لقائد، فالخروج عن النص وجد ترحيبًا وتطبيلًا وتصفيقًا، ومزاج الجمهور لم يعد ذلك المزاج الذي ينقاد للغة العقل، فهو مولع بأدوار «الأراجوز» سواء على خشبة المسرح أو الحياة. صعود السلم لم يعد من الأسفل إلى الأعلى، فهناك مَنْ وصل لآخر عتبة بالبارشوت، والبعض الآخر من النافذة، وكلاهما في «الهوى سوا» فقد تصدرا المشهد «بقدرة قادر»، أما الكادحون الذين صعدوا السلم حسب الأصول، فقد أصبحوا في هامش المعادلة لا يقدمون ولا يؤخرون بقصد أو بدون قصد في مشهد ضحك فيه البؤساء وبكى فيه المجتهدون. النجاح لم يعد نهوضًا، والفشل سقوطًا، فالأخير قد يحظى بالوهج، والأول قد ينحسر ضوؤه، فالمعيار لمَنْ يلمع في سماء الفوضى حتى لو كان في آخر الصفوف. لكن هؤلاء هم الواقفون وغيرهم سائرون، وهم النائمون على وسادة الجهل وغيرهم يسبح في الفضاء، هم أولئك الزارعون للشوك وغيرهم يتفنن في ترتيب أكاليل الزهور لإيمانهم بأن القمة تتسع للجميع. ندم المخرج والممثلون الذين كانوا على خشبة المسرح في عرض مسرحيتهم الهزيلة، وكانت ردة فعل الجمهور قاسية لأبعد مدى، حتى إنهم تناسوا نجاحات سابقة لروايات جميلة كتبها نفس مَنْ فشلوا في سرد قصتهم الأخيرة. من الممكن أن تمكث في خداع البعض طويلا، ولكن حتما ستنكشف يوما ما، والضوء سيفضح «المتمكيجين»، والأقنعة لا بد أن تنكشف، والزيف مهما صمد لابد أن يغرق يوما في بحر الحقيقة. كل الدروب أصبحت «درب الزلق» فلم نعد نأمن من مطباتها وحفرها، سواء المصطنعة منها أو الأصلية، والأولى أصبحت ظاهرة يتقيأ منها الجميع، حتى أولئك الذين وضعوها. انتهى كل شيء، ولكن الجمهور الواعي لأصول المسرحية عليه أن يدرك أن خشبة المسرح قد تقدم أناسا ظلموا في الدور، وانخدعوا بالنص، وأخطأوا من غير قصد، لكن من المؤلم أن ينتهي الجمال لقبح، والبطل يتحول لكومبارس، والعزيز بالذل، والغني بالفقر، ومؤلم أكثر أن تجد مَنْ صفق لك، يطالبك بالرحيل من المشهد.