تحدثتُ في المقال السابق عن بعض الجوانب النظامية لإجراءات التحكيم، واستكمالا لما سبق ذكره فقد منح نظام التحكيم السعودي الصادر بالمرسوم الملكي رقم (م/34) وتاريخ 24/5/1433ه الحرية الكاملة لطرفي النزاع في عدم التقيُد بالقواعد الإجرائية المتبعة في إجراءات التقاضي العادية، وأجاز لهم إجراء التحكيم في أيِ مكانٍ يتفق عليه الطرفان، سواء أكان داخل المملكة أو خارجها، ويكون هذا المكان هو مقر التحكيم، مع مراعاة ظروف الدعوى وملاءمة المكان لكلا الطرفين. كما يجوز لهيئة التحكيم أن تقرِر الاجتماع في أيِ مكان تراه مناسبا للمداولة بين أعضائها، ولسماع أقوال الشهود أو الخبراء أو طرفي النزاع أو لمعاينة محلِ النزاع أو لفحص المستندات والاطلاع عليها. وبالنسبة للغة التحكيم، فالأصل هو أن يجري التحكيم باللغة العربية، لأن النظام الأساسي للحكم في المملكة العربية السعودية الصادر بالمرسوم الملكي رقم (أ/90) وتاريخ 27/8/1412ه ينصُ في المادة الأولى على أن: «المملكة العربية السعودية، دولة عربية إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولغتها هي اللغة العربية...». وهذا ما اتبعه أيضا وسار على نهجه نظام التحكيم، حيث نص في المادة (29/1) على أنه: «يجرى التحكيم باللغة العربية ما لم تقرِر هيئة التحكيم أو يتفق طرفا التحكيم على لغة أو لغات أخرى، ويسري حكم الاتفاق أو القرار على لغة البيانات والمذكرات المكتوبة، والمرافعات الشفهية، وكذلك على كل قرار تتخذه هيئة التحكيم، أو رسالة توجِهها، أو حكم تصدره، ما لم ينص اتفاقُ الطرفين أو قرارُ هيئة التحكيم على غير ذلك». ويُفهم من المادة السابقة أن الأصل أن يتم التحكيم باللغة العربية، ولكن النص السابق أتاح أيضا لطرفي النزاع - في اتفاق التحكيم - ولهيئة التحكيم اختيار لغةٍ أو بعض اللغات الأخرى، إذ ربما يكون طرفا النزاع من دولتين مختلفتين لكلِ دولةٍ لغتها الخاصة، فيكون من العدالة أن يجري التحكيم باللغتين معا على أن يقوم كلُ طرف بتقديم ترجمة إلى لغة الطرف الآخر. وبالنسبة لمواعيد تقديم الدعوى وأوجه الدفاع والمستندات نجد أن نظام التحكيم لم يحدِد موعدا معينا لتقديم طلب التحكيم أو مذكرة الدفاع أو غيرها من الإجراءات أثناء سير الدعوى، بل ترك هذا الأمر للاتفاق المسبق بين الطرفين في اتفاق التحكيم أو بما تحدِده هيئة التحكيم. وتقوم هيئة التحكيم وفقا لنصِ المادة (33) من نظام التحكيم بعقد جلسات المرافعة للفصل في النزاع، بغية تمكين كلِ طرفٍ من تقديم أدلته ومستنداته وإبداء حجته ووجهة نظره، مع مراعاة حقِ الهيئة في الاكتفاء فقط بإلزام طرفي النزاع بتقديم المذكرات والوثائق المكتوبة، ما لم يوجد اتفاق مسبق بين الطرفين على خلاف ذلك. ويجب إخطار الطرفين على عناوينهم الثابتة بمواعيد الجلسات وبموعد النطق بالحكم أو بأيِ اجتماع تعقده الهيئة لأيِ غرضٍ آخر، مع مراعاة أن يتم الإخطار قبل الانعقاد بوقت كافٍ، وعلى الهيئة أن تقوم بتدوين ما يدور في الجلسة في محضرٍ يوقع عليه الشهود أو الخبراء والحاضرون من الطرفين أو من يمثلونهم، وتسلم نسخة منه إلى كلِ طرف من أطراف النزاع، ما لم يكن هناك أيُ اتفاق آخر مسبق تم بين الطرفين يقضي بخلاف ذلك. وفي حال تخلف أيُ طرف من طرفي النزاع عن حضور أيِ جلسة من الجلسات المنعقدة رغم تبليغه بموعدها تبليغا صحيحا، أو في حال عدم قيامه بتقديم ما طُلب منه من مستندات أو وثائق، ففي هذه الحالة يجوز لهيئة التحكيم أن تستمر في إجراءات التحكيم، ولها في سبيل ذلك أن تُصدر حكمها في النزاع استنادا إلى عناصر الإثبات الموجودة أمامها، وذلك وفقا لما نصت عليه المادة (35) من نظام التحكيم. وقد أجازت المادة (36) من نظام التحكيم لهيئة التحكيم القيام بتعيين خبير أو أكثر متى تطلب موضوع النزاع ضرورة القيام بهذا الإجراء في حال تعذر على هيئة التحكيم تكييف أو فهم بعضِ أو جلِ المسائل الفنية التي ينطوي عليها النزاع والتي تتطلب ضرورة الاستعانة بأهل الخبرة والاختصاص في هذا النوع من المسائل، وفي مثل هذه الحالات يقوم الخبير بتقديم تقريرٍ حول محلِ النزاع يتمُ إثباته في محضر الجلسة ويتمُ تبليغه إلى كلا الطرفين، ما لم يوجد اتفاق على غير ذلك، ويتوجب على كلِ طرف عندما يعقدُ الخبيرُ جلساتٍ معه أن يقدِم للخبير المعلومات المتعلِقة بالنزاع وأن يمكِنه من فحص المستندات أو الوثائق أو أية متطلبات أخرى ذات الصلة. وجدير بالذكر أن تقرير الخبير غير مُلزم لهيئة التحكيم، فكما يجوز لها أن تأخذ بما ورد فيه، يجوز لها كذلك أن تغض الطرف عنه بشرط أن يشتمل حكمها على أسباب وجيهة ومقنعة تبرِر رفضها الأخذ بما ورد في هذا التقرير، كما يجوز أيضا للهيئة أن تُعيِن خبيرا آخر إذا رأت ضرورة لذلك لإنهاء جميع مجريات التحكيم وقفل باب المرافعة وحجز القضية للتداول.