وأخيراً صدر نظام التحكيم الجديد بعد طول ترقب بالمرسوم الملكي رقم م-34 وتاريخ 24-5-1433ه - 16-4-2012م وقد نشر في الجريدة الرسمية (أم القرى) بعددها رقم 4413 الصادر بتاريخ 18-7-1433ه الموافق 8-6-2012م. ولابد قبل التعليق على النظام الجديد أن نستعرض باختصار ما كان عليه وضع التحكيم المحلي في ظل النظام السابق الصادر بالمرسوم الملكي رقم م-46 وتاريخ 12-7-1403ه - 24-4-1983م ولائحته التنفيذية. النظام القديم : نظرة عامة يعتبر نظام التحكيم الملغي أول نظام للتحكيم يصدر في المملكة، ويتسم ذلك النظام بالاقتضاب (24 مادة) كما يتسم بالدرجة الأولى بالرقابة القضائية على جميع مراحل التحكيم، فإن الجهة القضائية «المختصة أصلا بنظر النزاع» هي التي توافق على وثيقة التحكيم وتشرف على تطبيق الإجراءات، وخاصة فيما يتعلق بمدة التحكيم، وتمديدها، وإصدار الإجراءات التحفظية والقرارات المؤقتة بطلب من هيئة التحكيم، وهي التي توافق على قرار التحكيم أو تعدّله أو تلغيه، بحيث لا يعتبر قرار التحكيم نهائياً وملزماً واجب النفاذ، إلا بعد موافقة الجهة القضائية المختصة عليه، وعندما يلغى قرار التحكيم تتصدى الجهة المختصة للحكم في الموضوع. وقد أخذ على ذلك النظام إخضاع قرار التحكيم لموافقة الجهة المختصة أصلا بنظر النزاع - وهي محكمة الدرجة الأولى - فيجد طرفا الخصومة نفسيهما وقد خضعا لإجراءات التقاضي بما تتطلبه من الوقت والجهد، وكأن قرار التحكيم كان مجرد رأي صادر من مساعدين قضائيين أو ما نسميهم ب»القضاة الملازمين». كما ترك أموراً كثيرة كانت موضع التساؤل والخلاف. كانت تبدأ إجراءات التحكيم في ظل النظام القديم بأن يعد طرفا الخصومة «وثيقة تحكيم» يوقع عليها الطرفان كما يوقع عليها المحكمون الثلاثة ثم تقدم هذه الوثيقة إلى ديوان المظالم، حيث يتم تحويلها إلى إحدى الدوائر القضائية التجارية المختصة من الدرجة الأولى، لتقوم الدائرة القضائية التي تحال إليها الوثيقة بمراجعتها وطلب تعديلها إذا لزم الأمر، ثم تصدر قراراً بالموافقة عليها، ويعتبر تاريخ القرار هو التاريخ الرسمي لبدء مدة التحكيم وهي تسعون يوماً ما لم يتفق على مدة معيّنة، ولا يمكن تمديد هذه المدة إلا بموافقة الجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع. ونريد التنبيه هنا إلى أن «وثيقة التحكيم» لا تشبه «وثيقة المهمة» أو (Temrs of Reference) المنصوص عليها في المادة (23-1) من قواعد التحكيم لغرفة التجارة الدولية في باريس، إذ إنها لا تهتم بتحديد النقاط القانونية التي يتفق الطرفان على عرضها على المحكمين (The Issues) بل هي مجرّد عرض لوقائع الدعوى والدعوى المضادة مع طلبات الطرفين، يقوم بتحديد كل طرف ما يخصه منها، ثم التأكيد على تعيين المحكمين الثلاثة. ويبدأ عندئذ نظر الدعوى والدعوى المضادة بتقديم المذكرات الجوابية من كل طرف خلال جلسات تحددها هيئة التحكيم بالاتفاق مع طرفي الخصومة، ثم تصدر هيئة التحكيم قرارها بقفل باب المرافعة، ولها حق إعادة فتحها من جديد. وعندما تصدر هيئة التحكيم قرارها النهائي تقوم الجهة القضائية المختصة - كما أسلفنا - بمراجعته والموافقة عليه إذا لم يعترض أحد طرفي النزاع على قرار التحكيم، أما إذا قدم اعتراض على قرار الحكيم من أحد طرفيه، فإنّ الموضوع عندئذ يدخل في إطار القضاء المعتاد إذ سيكون من حق كل طرف أن يستأنف قرار المحكمة الابتدائية وهكذا، ولا ينفذ قرار التحكيم إلا بعد صدور حكم نهائي بالموافقة عليه أو تعديله أو إلغائه وإصدار حكم في الموضوع إذ يصبح عندئذ حكماً قضائياً. وإذا ما قورن النظام القديم بالنظام الجديد نشعر - بعد أول قراءة للنظام الجديد - بأن يشكل قفزة جريئة أجازت أموراً كان الحديث عنها في المملكة من قبيل الخيال. سنستعرض باختصار فيما يلي مستجدات النظام الجديد التي احتوت عليها مواده الثامنة والخمسون، من المواد الطويلة والمفصّلة. الجديد في النظام الجديد سنورد هذه المستجدات حسب أهميتها مع الرجوع إلى المادة أو المواد ذات الصلة. أولاً: استقلال هيئة التحكيم - من حيث المبدأ - عن الجهة المختصة أصلاً بنظر النزاع: تبدأ إجراءات التحكيم من اليوم الذي يتسلّم فيه أحد طرفيْ التحكيم طلب التحكيم من الطرف الآخر، ما لم يتفق طرفا التحكيم على غير ذلك (المادة السادسة والعشرون). وعندما يعيّن كل طرف محكمه ويقوم المحكمان باختيار المحكم الثالث تستكمل هيئة التحكيم تكوينها وتكون مستقلة في إجراءاتها. ولهيئة التحكيم بناءً على (المادة الثانية والعشرين) أن تطلب من الجهة المعنية مساعدتها على إجراءات التحكيم، وفق ما تراه هذه الهيئة مناسباً لحسن سير التحكيم، مثل دعوة شاهد، أو خبير، أو الأمر بإحضار مستند أو صورة منه أو الاطلاع عليه، أو غير ذلك، مع عدم الإخلال بحق هيئة التحكيم بإجراء ذلك استقلالاً. كما يجوز لطرفيْ التحكيم الاتفاق على أن يكون لهيئة التحكيم - بناءً على طلب أحدهما - أن تأمر أياً منهما باتخاذ ما تراه من تدابير مؤقتة أو تحفظية تقتضيها طبيعة النزاع. ولهيئة التحكيم أن تلزم الطرف الذي يطلب اتخاذ تلك التدابير تقديم ضمان مالي مناسب لتنفيذ هذا الإجراء، (المادة الثالثة والعشرون). وإذا لم يتفق طرفا التحكيم على مكان التحكيم، تقرر هيئة التحكيم هذا المكان (المادة الثامنة والعشرون). وإذا لم يتفق طرفا التحكيم على مكان التحكيم تقرر هيئة التحكيم هذا المكان (المادة الثامنة والعشرون)، ولهيئة التحكيم تعيين خبير (أو أكثر) وتحدد مهمته، وإذا نشأ بين الخبير وأحد الطرفين نزاع تصدر هيئة التحكيم قراراً بشأنه يكون غير قابل للطعن فيه بأي طريق من طرق الطعن (المادة السادسة والثلاثون). وعلى هيئة التحكيم إصدار حكمها خلال اثني عشر شهراً ويجوز تمديد هذه المدة بحيث لا تزيد مدة التمديد على ستة أشهر إضافية، وعندما تصدر هيئة التحكيم قرارها أو حكمها النهائي طبقاً لنظام التحكيم فإنه يجوز «حكم التحكيم الصادر طبقاً لهذا النظام حجية الأمر المقضي به ويكون واجب النفاذ»، (المادة الثانية والخمسون)، وتتولى الجهة المختصة أمر تنفيذ حكم المحكمين (المادة الثالثة والخمسون) الذي يكون قد أودعت هيئة التحكيم أصله لديها (المادة الرابعة والأربعون). وهكذا فإنّ هيئة التحكيم تتمتع بصلاحيات غير محدودة لا يقيدها سوى اتفاق طرفيْ التحكيم على بعض الأمور، وأهم من ذلك كله هو أنّ قرار التحكيم يعتبر نهائياً وملزماً إلاّ إذا تم الطعن فيه بالبطلان، وهي دعوى تحكم فيها الجهة المختصة بحكم نهائي يشبه الأحكام الصادرة من محاكم النقض إذ لا يتطرّق نظر الطعن للوقائع بل يكون محصوراً بالغلط في القانون فقط. ثانياً: حرية اختيار القواعد الإجرائية والقانون واجب التطبيق: قد يكون شرط التحكيم وارداً في العقد موضوع النزاع أو بصورة مشارطة تحكيم، ولكن للطرفين حق تفويض الغير في اختيار إجراءات التحكيم ويعد من الغير في هذا الشأن كل فرد، أو هيئة، أو منظمة، أو مركز للتحكيم في المملكة العربية السعودية أو في خارجها (المادة الرابعة). كما يجوز لطرفي التحكيم الاتفاق على «إخضاع العلاقة بينهما لأحكام أي وثيقة (عقد نموذجي، أو اتفاقية دولية، أو غيرهما» وعندئذ «وجب العمل بأحكام هذه الوثيقة بما تشمله من أحكام خاصة بالتحكيم بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية» (المادة الخامسة). وقد أكدت كل ذلك (المادة الخامسة والعشرون) التي نصت على أن «لطرفي التحكيم الاتفاق على الإجراءات التي تتبعها هيئة التحكيم، بما في ذلك حقهما في إخضاع هذه الإجراءات للقواعد النافذة في أي منظمة أو هيئة أو مركز تحكيم في المملكة أو خارجها، بشرط عدم مخالفتها لأحكام الشريعة الإسلامية، فإذا لم يوجد مثل هذا الاتفاق كان لهيئة التحكيم - مع مراعاة أحكام الشريعة الإسلامية وأحكام هذا النظام - أن تختار إجراءات التحكيم التي تراها مناسبة» (هكذا). أما من حيث القواعد الموضوعية أو القانون واجب التطبيق على النزاع فإنّ (المادة الثامنة والثلاثون) تنص على أنه مع مراعاة عدم مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية، والنظام العام في المملكة، على هيئة التحكيم أثناء نظر النزاع الآتي: أ - تطبيق القواعد التي يتفق عليها طرفا التحكيم على موضوع النزاع، وإذا اتفقا على تطبيق نظام دولة معيّنة اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، ما لم يتفق على غير ذلك. ب - إذا لم يتفق طرفا التحكيم على القواعد النظامية واجبة التطبيق على موضوع النزاع طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في النظام الذي ترى أنه الأكثر اتصالاً بموضوع النزاع. ج - يجب أن تراعي هيئة التحكيم عند الفصل في موضوع النزاع شروط العقد محل النزاع، وتأخذ في الاعتبار الأعراف الجارية في نوع المعاملة، والعادات المتبعة وما جرى عليه التعامل بين الطرفين. ثالثاً: حرية اختيار لغة التحكيم: لعل (المادة التاسعة والعشرون) من أشد مواد نظام التحكيم الجديد جرأة في التجديد، ولذلك نورد نصها كاملاً: (المادة التاسعة والعشرون): 1 - يجري التحكيم باللغة العربية ما لم تقرر هيئة التحكيم أو يتفق طرفا التحكيم على لغة أو لغات أخرى، ويسري حكم الاتفاق أو القرار على لغة البيانات والمذكرات المكتوبة، والمرافعات الشفهية، وكذلك على كل قرار تتخذه هيئة التحكيم، أو رسالة توجهها، أو حكم تصدره، ما لم ينص اتفاق الطرفين أو قرار هيئة التحكيم على غير ذلك. 2 - لهيئة التحكيم أن تقرر أن يرافق كل الوثائق المكتوبة أو بعضها التي تقدم في الدعوى ترجمة إلى اللغة أو اللغات المستعملة في التحكيم، وفي حالة تعدُّد هذه اللغات يجوز للهيئة قصر الترجمة على بعضها. (انتهى). رابعاً : المرجح يصبح «فيصلاً» وعنصراً إضافياً: يطلق النظام الملغي على المحكم الثالث اسم «المرجح»، ولكن النظام الجديد استحدث في الفقرة (2) من (المادة التاسعة والثلاثين) محكماً رابعاً أطلقت عليه أيضا اسم «المرجح» إذ نصّت هذه الفقرة على أنه «إذا تشعّبت آراء هيئة التحكيم ولم يكن ممكناً حصول الأغلبية، فلهيئة التحكيم اختيار محكم مرجح خلال (14) يوماً، من قرارها بعدم إمكان حصول الأغلبية وإلاّ عيّنت المحكمة المختصة محكماً مرجحاً»، وهو تجديد لا نعلم له وجوداً سوى في عمليات التحكيم العمالية الجماعية التي تمارسها الهيئة الأمريكية للتحكيم (AAA) ويطلق عليه باللغة الإنجليزية اصطلاح «Umpire» ويترجم باللغة العربية بلفظ «الفيصل» أو «الوازع». تلك هي أهم التجديدات التي أتى بها النظام الجديد، مع جملة من التجديدات الأقل أهمية. فماذا تعني هذه التجديدات في نظر المهتمين بإجراءات التحكيم؟ * محامي - الرياض