كسائر الأمم والأقوام تحفل الذاكرة العربية بفيض من المشتركات التي يسهل البناء عليها لتشكيل هوية جامعة كدرع لصد كل دعاوى الانفجار الهوياتي، والممهدة لنتيجة حتمية وهي حدوث تقسيم سياسي. وكما تمت الإشارة في المقال السابق، أن وجود المشتركات الثقافية الصانعة للهوية لا قيمة لها ما لم يستشعر صُناع التاريخ من الساسة والمثقفين مسئوليتهم بلحظة زمنية معينة للانطلاق منها لكتابة رواية معتمدة، شريطة مراعاة مصلحة الجماعة الوطنية الموحدة. إن العقبة التي واجهت قيام أمة العرب بالمعنى الحديث نشأت منذ اتفاقية سايكس بيكو، بعد تحول مجموعة سياسية وثقافية واحدة إلى كيانات منفصلة بحدود اعتباطية نتجت عنها أزمة الدول القُطرية. وعمق الأزمة كان بعدم القدرة على إثبات تميز ثقافي وهوياتي جذري لقطر عن آخر؛ نظرا للامتداد اللغوي والتاريخي المشترك وما نتج عنه من مخيلة مشبعة بأساطير ورموز وقيم واحدة تم تناقلها وغرسها منذ ما يزيد على آلاف السنين. وهذا ما يفسر نزعة الوحدة العربية القائمة على اندماج الكيانات، وتوهجها في فترات متقطعة بالقرن الماضي، ومردها ناتج عن وجود شعور وجداني وثقافي ومصلحي سياسي واقتصادي دفع العرب إلى تبني الحلم. ولكون الدولة القُطرية واقعا نعيشه، يجب السعي لبقائها متماسكة ضمن محيطها العربي استباقا لموجة تفتيت جديدة. ويتم ذلك برواية رسمية تستنهض ذاكرة جمعية يشعر المواطنون كلهم بالانتماء لها كجزء من تكوينهم الثقافي العربي الراسخ، لا بأنها مختلقة ومفروضة عليهم أو تقوم على سردية تمثيل مصالح فئة وبالتالي جعلهم معيار المواطنة دون غيرهم. وهذه الخطوة ستكون بادرة حُسن نوايا لتسهيل إجراءات التصدي للدعاوى الفئوية التي أخذت تطالنا نيرانها. وبهذا الصدد تتبقى جزئية مسئولية المحافظة على الذاكرة العربية وما استجد عليها، وسنختم بها في المقال القادم.