شهدت المنطقة العربية في الأعوام الأربعة الأخيرة، تهديداً فعلياً ينذر برسم خريطة جديدة للمنطقة، توحي معطياتها بمزيد من «التفتيت»، بعد التمزيق الذي وقع إبان رسم الحدود من المستعمرين الفرنسي والبريطاني مطلع القرن الماضي، ما حول الواقع العربي آنذاك إلى 22 قطراً. إلا أن ظهور تنظيم «داعش»، وهدمها الحدود القائمة بين العراق وسورية، وتحويل المناطق التي تسيطر عليها في البلدين إلى دولة واحدة لها حاكم واحد يدعى «الخليفة»، أدى إلى ظهور أصوات تنذر بمزيد من «التفتيت» قائم هذه المرة ليس على أسس أنظمة جمهورية وملكيات، وإنما على أسس طائفية وقبلية، وخصوصاً بعد الانفجار الهوياتي الذي تشهده المنطقة بسبب الأحداث السياسية والاقتصادية والثقافية المتلاحقة. وعلى رغم هذا الواقع «المخيف» الذي ينتظر الوطن العربي، فإن هناك نخباً ثقافية تصر على أن «الوعي العربي يملك من الصلابة، ما يجعله عصياً على الذوبان والاستسلام النهائي للوضع العربي المؤسف»، مشددين على أهمية أن «يتناول الفكر العربي مشكلات أكثر التصاقاً بالدول العربية، مثل: المواطنة، والديمقراطية، والريعية، والطائفية، والمجتمع المدني، وغيرها من الأمور». وقال المفكر اللبناني الدكتور جورج قرم: «منذ التطورات التي وقعت أخيراً في سورية والعراق، بعد كسر تنظيم «داعش» الحدود التي اصطنعها المستعمر الغربي، مناقضاً بذلك الطموحات العربية التي كانت ترمي في ذلك الظرف التاريخي إلى بناء مملكة عربية موحدة، من خلال مطالب الساسة والنخب الثقافية التي كانت حريصة على توحيد الأقطار العربية، لا تقسيمها وتمزيقها، والوطن العربي يعيش حالاً من الترقب لوقوع مستجدات تطاول وضعه الراهن». وأوضح قرم ل«الحياة»، أنه «على رغم محاولة التمزيق التاريخية للعرب التي قام بها المستعمر، فإن الأطروحات والأحداث الجسام كانت كفيلة بإعادة التكاتف العربي إلى الصدارة، من خلال التعاضد والقفز على الحدود، بقصد إعلان النصرة وتجديد مطالب الوحدة والتكافل العربي، وهذا ما يفسر لنا كيف أن الجماهير العربية زحفت بلهفة مرحبة بالثورة المصرية في ال23 من تموز (يوليو) عام 1952، وكيف أنها كشفت عن وقوفها جنباً إلى جنب مع أي تحرك عربي للملمة التشتت»، مشيراً إلى أن العدوان الثلاثي الذي وقع على مصر عام 1956 «أرخ لموعد فاصل وحقيقي للتضامن العربي في أوج صوره، ممهداً بذلك إلى مزيد من التطور الإيجابي المشجع لتلافي حال التقسيم مادياً ومعنوياً». ولفت صاحب كتاب «انفجار المشرق العربي»، إلى أن هناك «انتكاسة» طرأت على خط الوحدة العربية، وذلك «بعد فشل مشروع «الجمهورية العربية المتحدة»، التي أقيمت بين مصر وسورية عام 1958، وأدى ذلك الفشل إلى وجود خيبة أمل، تعمقت لاحقاً بعد انكسار الجيوش العربية أمام العدو، وتكلل ذلك الشعور بالسلبية بعد وفاة الزعيم العروبي جمال عبدالناصر الذي كان حاملاً لواء الوحدة العربية، ومن بعده لم يعد هناك من يحملها من صناع القرار، فيما ظل المطلب حاضراً وفاعلاً بقوة بين النخب والجماهير». وأضاف: «علينا التأكيد أنه ليس من السهل حدوث التفتت مع الوعي الجماعي العربي والثقافة العربية المتراكمة قبل وبعد الإسلام، والتي قامت على التاريخ والفنون والشعر والموسيقى وغيرها من المجالات الحية بين الناس. مع ضرورة تأكيد أن هناك سعياً لأجل خلق حرب مصطنعة بين الإسلام والعروبة، فيما الإسلام ليس المكون الوحيد للذاكرة العربية، ومحاولة تحييد أي مكون آخر هو سعي لأجل إدخالنا إلى غوانتانامو فكري لا مخرج منه». بدوره، ذكر الكاتب السعودي نايف السلمي أن «العرب يحملون كل مقومات التكامل، لكن هذه المقومات ستتآكل إن لم يتم تثميرها وجعلها ناجعة ومثمرة في حياة الناس، وإن لم يحدث ذلك فستتحول العروبة إلى «يوتوبيا» لا علاقة لها في الواقع»، مشيراً إلى أن الفكر العربي في حاجة إلى أن يتنازل عن هذه «السرديات» الراسخة عند الناس، ليتناول المشكلات الأكثر التصاقاً بالدول العربية، مثل: المواطنة، والديمقراطية، والريعية، والطائفية، والمجتمع المدني»، مضيفاً «عليه أن يرفض كون العروبة آيديولوجيا، وأن يعيدها إلى منبعها الأول بوصفها هوية ثقافية سياسية تنشد التحرر والاستقلال، كما يجب على الفكر القومي أن يقدم العروبة خارج الحزبية السياسية والمساجلات التاريخية». وأرجع السلمي ذلك إلى «تفسير هشاشة الدول الاعتباطية، وتحديداً في المشرق العربي، واقتتال مواطنيها فيما بينهم بمجرد اهتزاز مؤسسات هذه الدول، وما يجري من اقتتال اليوم على أسس الهويات الأهلية الأولى والروابط والوشائجية كالطائفة والقبيلة، يؤكد أن الوطنية القطرية رغم كل الدعاية لها لم تنجح في ملء الفراغ الذي تعيشه المنطقة منذ ما يقارب مائة عام».