أنسنة المدن من المواضيع التي أصبحنا نسمع عنها مؤخرا وإن كان مبدؤها سهلا وذلك من خلال جعل المدن مناسبة للإنسان إلا أن تطبيق ذلك في غاية الصعوبة وبالذات في المدن القائمة. يرجع سبب هذه الصعوبة إلى أن تصميم المدن لم يكن ليخدم الإنسان في الأصل، بل صممت كما هي لتخدم السيارة وهي وسيلة النقل الأساسية التي نستخدمها. قرار واحد خاص بطريقة التنقل الأساسية لمدينة ما يؤثر على شكلها وتخطيطها وكثافتها السكانية وكمية الخدمات والبنى التحتية وهذا ما حدث بالفعل في المدن السعودية حيث تعتبر الرياض أم المدن المترهلة. منح الأراضي وقروض صندوق التنمية أيضا ساهمت في توسع المدينة بكثافة وأراض بيضاء كبيرة تجعل توفير الخدمات أمرا مكلفا وبالتالي يتأخر. وبين كل هذه الاعتبارات والقرارات ضاع الإنسان وفقد ما يحتاجه ليعيش حياة ذات رفاهية وراحة في المدينة. المدينة الإنسانية ليست نموذجا واحدا يمكن تطبيقه وذلك لأنها تأخذ في عين الاعتبار الاختلافات الاجتماعية والثقافية والعمرية وغيرها ولكنها باختصار محاولة جادة لجعل المدينة صالحة أكثر للعيش. على سبيل المثال تتشارك في مشروع «المدن الإنسانية» 12 مدينة في الاتحاد الأوروبي تحت مسمى «تحدي مقياس المدينة 2014-2018» (Human Cities: Challenging the City Scale 2014-2018) ويعرض من خلاله محاولات لاستعادة السكان لمدنهم من خلال تجارب حضرية تعيد اختراع مفهوم الحياة في المدينة وتركز على جوانب جودة الحياة. بدلا من تحديد شكل المدينة الفيزيائي تتبنى المدينة الإنسانية عددا من القيم وهي التعاطف والرفاهية والاستدامة والألفة والعيش المشترك والتحركية وإمكانية الوصول والخيال والترفيه والجماليات والحسية والتضامن والاحترام. كل قيمة ومبدأ من هذه المبادئ يستحق الدراسة وعرض الأمثلة، ولعل هذا ما سوف أقدمه في مقالات قادمة تفصل بعض هذه المفاهيم بشكل أوسع. من منا لا يود أن يسكن في مدينة تتبنى هذه المفاهيم؟ فالمدينة التي تتعاطف مع سكانها وتحترمهم تلبي احتياجات جميع فئات المجتمع من الصغير للكبير ومن صحيح البدن إلى ذوي الاحتياجات الخاصة. المدينة الحسية تغذي الروح من خلال تجربة حسية متناغمة تلامس حواس الإنسان الخمس دون الهجوم الحسي من ضوضاء وروائح كريهة وتلوث بصري. والمدينة ذات الألفة تعطي الإنسان مكانا يشعره بقيمته ولا تحيطه بمبانٍ تقزمه وتخنقه. أما المدينة المستدامة فهي صديقة للبيئة توفر مقومات العيش المستدام على جميع الأصعدة. كذلك الخيال الذي نتركه خلفنا كلما كبرنا يعتبر من مقومات المدن الإنسانية. لو تبنى العالم بأكمله هذه المفاهيم لن تتشابه مدننا لأن السكان يكون لهم دور كبير في تشكيلها بل سوف نرى نماذج متنوعة لتطبيقها. بينما كانت المدن نتاج تخصص التخطيط العمراني في السابق أصبح تشكيلها يتحول لتصبح المدن نتاج شراكة بين المعماريين والمصممين والفنانين ومصممي البيئة وعلماء الاجتماع والكتاب والفلاسفة بالإضافة إلى المخططين العمرانيين. فتضافر وتداخل الجهود يثري المدينة ويزيد من مناسبتها للإنسان لأن كل جانب من هذه العلوم يتناول المدينة من زاوية مختلفة. أتساءل بالفعل أين نحن من هذا التعاون الجاد بين التخصصات لتحسين حال مدننا؟ وإن كنا لم نتشارك بعد في وضع تصور المدينة علينا على أقل تقدير أن نفتح مجال الحوار وتبادل الخبرات والتعاون والتشارك في المعلومات وذلك كخطوة أولى. عندما أسمع حديثا عن أنسنة المدن محليا أجده لا يتعدى إيجاد أماكن للمشي والترصيف في الغالب. وإن كان هذا جانبا مهما إلا أنه ليس كل شيء بالذات أن المشي المقصود هو المشي للتريض وليس إمكانية حقيقية لجعل المشي وسيلة تنقل بين المنزل والعمل مثلا. أنسنة المدن تبدأ بالأنظمة واللوائح بعد دراسة الوضع الراهن وإشراك سكان المدن في صنع مدنهم. فالتصميم التشاركي (participatory design) هو من الوسائل الناجحة في التخطيط وإعادة تطوير الأحياء وهو ما زال مفقودا تماما لدينا. فمن يعرف احتياجات الحاضرة أكثر من سكانها؟