عندما التزمت القصيدة الحديثة مبكرا بوحدة الموضوع فهي قد تجاوزت تقليدا كتابيا في الشعر يبتدئ بالنسيبِ إلى المدح أو الهجاء، ثم إلى موضوع القصيدة، كما نراه في الشعر العربي منذ عصره الجاهلي. فالحداثة الشعرية تفترض الوحدة الموضوعية وتنأى عن مفهوم «القصيدة الشاملة» التي تجاوزتها شعرية الحداثة منذ بزوغ المدرسة الرومانسية، وعندما «غيرت معماريتها وموضوعاتها وأسسها وقدمت في المقام الأول عنصرا ذاتيا كموضوع للقصيدة: ف «أنا» الشاعر هي ذاته الشخصية فعلا، وفي المقام الثاني جعلت الأغنيةِ القصيدة ذاتها، أي أن موضوع القصيدة هو الشعر نفسه، وهذا المفهوم الحديث من وضع القصيدة إزاء تحدٍ وهو عدم النمو والتطويل، حيث «القصيدة الرمزية هي أرخبيل من الجزئيات، والنمو يتم نثره وترذيذه، حيث لا تتصل بسلسلة كلامية، بل بالصمت والانجذاب والألوان». وحتى يتجاوز الشاعر الحديث هذا المأزق «القصيدة المركزة» فقد ابتكر العنوان العريض لنصوصه ليلتزم بهذا المحدد من جهة، ثم لينوع الموضوع حتى يتسع لنطاق بوحه وفكرته من جهة أخرى. من هنا أتى اقتراح أسلوب آخر ليخرجه من أزمة التكثيف والإيجاز في بنية القصيدة، عندما اقترحت كاثلين هيلز للجواذب وجزر الاستقرار واللاخطية مدفوعة من وحي نظرية الفوضى في الأدب، حيث «يتغير التركيز من وحدة من وحدات العمل ليعود إلى نقطة الجذب، ففي الحركة اللاخطية يبدو المسار كدوامات داخل دوامات داخل دوامات تتكرر، لكنها لا تتماثل بالضبط أبدا». وحتى نخرج من طور الحديث عن النظريات إلى واقع القصيدة الحديثة، سنجعل من نص الشاعر عبدالله السفر «قضمة نائمة في الأسنان» مادة المثال على تلك الاقتراحات ونستكشف آفاق نصه ومفهومه الشعري وطريقته في توظيف النظرية الشعرية الحديثة. فهذا النص يتخذ من الحنين «نوستالجيا» موضوعه، كمحاولة لترميم الذاكرة وصيانتها عند استعادته لحظات رحلت في الزمان، ولم يتبق منها سوى إشارات خلدت في الروح. أطياف رؤى مقبلة من بعيد على شكل ومضات متسارعة يجتهد حتى يقبض عليها، ويقبل شرط الزمان المفارق، لكنه يتمسك بالأمكنة التي احتضنتها، ويمعن في الاحتفاء بها. أما نحن، فلن ننشغل بمحاولة العثور على محرض لتداعي تلك الذكريات حتى نمضي معه، فقد تكون مجرد تحية عابرة، أو تشكل طيفا في فنجان: «تحية تخالها وعدا، لكنها ليست لك. تذهب إلى نافذةٍ بعيدة ويدٍ صغيرة تكبر في التلويح. لا أحد يأتي. لا أحد يمر. الظلُ المخبوط في كوب الشاي شعشع مرآتك، فانتهبتك اللسعة. يفيق الشاعر على حرارة الذكرى ويبرع في سبك صوره الشعرية عندما يجتهد في استحضار تفاصيلها، بل تدفعه للانتقال إلى حدث آخر مختلف في تلافيفها، وهو لا خطي أيضا كما أرادته كاثرين ويلز في اقتراحاتها، حيث استثارت مخزون الذاكرة فقدم «القبلة» كتناظر معقول في الشعور بينها وبين «اللسعة» في المقطع السابق: «منذ متى وقُبلتك، تلك، معلقة في السماء؟.. لماذا هي هناك؟ عذابي الصغير القديم وزفيري الذي ينساهُ الليل».طبيعة القبلة الحسية، تنقله إلى ذكرى حسية أخرى تكون شاهدة على موقف كان فيه ذات يوم مأخوذا بالعشق وعطلت حاسة التذوق المادي للطعام لديه: «قضمة منسية عند (بوفيه الأمانة) منذ الروائحِ الأولى والبللِ الذي لا يبلى القضمةُ النائمة في الأسنان من أورى لها الزند وعض اللغم المخبوء منذ المنديل؟» بعدها تجمح الروح وتتبعثر الذاكرة، وكأنها تُوخز بمهماز من وجع! فتتقاذف المشاهد وتصحو مفزوعة من غفوتها مضطربة، ويجاهد الشاعر في إخراج جزء منها بصعوبة لأنها عصية على الانتظام. هي فوضى عارمة من المشاعر ودوامات متتابعة من حنين تخرج على شكل ومضات قصيرة لتصور موقفا واحدا «النظرة المتبادلة»، وتتحرك المشاهد عندها ببطء شديد، فالبداية كانت بالتفاتة.. تطول.. تتكثف.. ثم تستقر في قاع العين: «الالتفاتُ عزاء، يدخرُ في العينين بخار نظرةٍ أخيرة». ▪ ▪ ▪ «لماذا هذه النظرة تمرغُ الأفق ولا تذعن؟» ▪ ▪ ▪ «الذي لا يعبر يتخمرُ في النظرة. تتكفلُ به جرارُ العين».هي لقطات ثلاث لمصور محترف بتقنية استرجاع اللحظة «الفلاش باك».. ألم تلاحظوا ذلك؟ فهذا ما يمنح الشعر ديمومته وفرادته وسط صخب «الميديا» ووسائط التعبير الحديثة ومنافسة الصورة المتحركة والثابتة للكلمة. فالشعراء الرائعون «يدربوننا على النظر أفضل (من الصورة) رغم أن كلماتهم عمياء» كما يقول ريجيس دوبريه، فالكلمات «تقذفنا نحو الأمام فيما ترمي بنا الصورة إلى الخلف».فلنعد الآن إلى بقية المشاهد والصور التي تداعت من ذاكرة الشاعر بعد محرض «النظرة»، فأغلب ما تجلبه من مواقف هو تتابع بصري بمحرك الحنين، فالصورة البصرية التالية هي اشراقة العاطفة المكبوتة عندما تبوح بمكنونها، وكأن الذاكرة قد حبست تلك العواطف بمواقفها وكومتها ولم يتسن لها التعبير إلا الآن، فهي تتمثل الحبيب بما رأته أول مرة: «(صغيرون) لم يخرج من كتابِ الفجر، وما فاهت باسمِهِ الأغنية. (صغيرون) وتركضُ في حبري بقدمٍ جائعة. (صغيرون).... ▪ ▪ ▪ وأضعتُ الخيط».يرى الحبيب متجسدا في «زرقة» كتابته وفي أشعاره، ويشقيه غيابه الجسدي، فهو من أربك قصائده وأوهن الروح من غيابه ونأيه عن التواصل، ثم يحضر القميص برمزية الإغراء وسخونة الاشتهاء الذي لم يخب أواره بعد مضي تلك السنين الطويلة وباعتباره رغبة لم تُشبع: «زُرقة واهنة ويوسُف يعبثُ بالقميص».والجميل في تدافع هذه الذكريات هو مقدرة الشاعر على ضبط فوضاها، بجعله من العين جزيرة لاستقرار النص يعود إليها كلما أخذته الذاكرة إلى نواح قصية: «عين ذاهلة في رمادِ نظرتِها. قارب منسي يغوصُ في طينِ الجزر. ليس. . هناك.أحد». وهكذا إلى آخر النص، يسترجع الشاعر عبدالله السفر ذكرياته ومواقفه الطفولية بصور أخاذة وبسيطة، يسترجعها كما حدثت بالضبط. فالعين التي شاهدت تلك المواقف الطفولية لم تكبر أيضا، وتتغنى ب «البخنق» ذلك الرداء الطفولي والشعبي، وفرك رؤوس الكباريت من أجل إحداث فرقعة صوتية، وكذلك غطاء رأسه «الطاقية» وخيوطها المذهبة، لكن بعد كل تداعٍ للذاكرة تكون العين مرجع البوح ومستقر النص: «عين جاحظة سمرتها المرآة».