كنت أتأمل خريجي جامعة جلاسكو البريطانية العريقة، وأنا أنتظر دوري للوقوف على مسرح مبنى بيوت هول في مقر الجامعة الرئيسي الذي يمتد عمره لأكثر من خمسة قرون ونصف لاستلام شهادة الماجستير في الإدارة الإعلامية، أتأمل بصورة أدق أعمارهم، خبراتهم التي تختلف كل الاختلاف عن خريجي الدراسات العليا في السعودية. في الغرب الدراسات العليا ليست بديلاً للعمل واكتساب الخبرات العملية، فالطالب في أغلب الأحيان يتفرغ للعمل أو التطوع مع جمعيات للخدمة الاجتماعية لمدة عام بعد الثانوية العامة، وفي الجامعة يعمل كثيرون بدوام جزئي، ثم يلتحق بالوظيفة ويقرر بعد ذلك هل يحتاج إلى دراسة الماجستير؟ وهل سيكون ذلك لإحداث تغيير في المجال الوظيفي الذي يعمل فيه أم لاكتساب تخصصية في العمل الذي عرفه وعشقه وعمل فيه. هذا التوجه لم يأت مصادفةً، فالنظام التعليمي يرحب بأصحاب الخبرات المهنية للانضمام إلى التدريس أكثر من غيرهم، ويمنح الخبراء المهنيين أعلى المزايا ليحملوا خبراتهم الطويلة مع شهاداتهم إلى الجامعة لتكون المكان الذي تتطور فيه التطبيقات المهنية لتضيف للحضارة وتجسر الهوة بين الأفكار المبنية على البحوث النظرية، والتطبيقات التي تحدث في سوق العمل اليوم. كذلك الطلاب فبالرغم من كون الحياة الغربية توفر فرص العمل للطلاب قبل وأثناء الجامعة إلا أن كثيرا من التحصصات العلمية في الجامعات تشترط توافر خبرات مهنية لدى الطالب قبل إكمال مرحلة الدراسات العليا والتي سيكون مساهماً فيها في البحث والمناقشة وتطوير البرنامج التعليمي أيضاً وليس متلقيا فقط، فهل هذا ما يحدث هنا؟ النظام التعليمي السعودي– في الواقع- مصمم بطريقة تعزل تماماً الجامعات عن سوق العمل، وتوجد حاجزاً بين المهنيين الذين زاولوا المهنة والأكاديميين الذين يدرسون هذه المهنة، جامعاتنا تحرص مثلاً على توظيف المعلم الأصغر عمراً والأحدث تخرجاً دون اعتبار لخبراته، أما أكثر الجامعات كرماً فتعتبر الخبرة غير الأكاديمية بربع الخبرة الأكاديمية وكلاهما يُشترط وجودهما بعد الحصول على الشهادة الأكاديمية. وهذا ينطبق أيضاً في قبول الطلبة فبدلاً من اشتراط الخبرة لإكمال الدراسات العليا، فإن فرص قبول المتقدم لدراسة الماجستير تقل بعد مرور عام من تخرجهم حتى ولو أمضوا هذه السنوات في ممارسة المهنة، والنتيجة ضم مزيد من المتلقين والمعزولين عن المهنة لصفوف الدراسات العليا. انتهى الحفل وودعت زملاء من مختلف دول العالم جاءوا بخبرات متنوعة ليضيفوا بخبراتهم وتفاعلهم إلى برنامج الدراسات العليا كما تقر بذلك البروفيسور جوليان دويلي المشرفة على رسالتي ومديرة مركز بحوث السياسات الثقافية التي يحتضن برنامج الماجستير في الإدارة الإعلامية، والتي لديها تاريخ في العمل المهني يضاهي الأكاديمي. هل حيوية التعليم ومخرجات الجامعات الغربية إذن نتيجة لتجاوزها نظام عزل الدراسة والعمل الأكاديمي عن المهنة والمهنيين، أم لاستقطاب وتخريج الخبراء في برامج الدراسات العليا، أم لتشجيع الطلاب على العمل في عمر مبكر لاكتساب التجربة؟ أعتقد بأنه مزيج من هذه الأسباب. في بريطانيا توصلت جامعتان إلى نتيجة مشابهة حول استجابة الدماغ البشري للتجربة بصورة تفوق التحليل أو التصور النظري، التجربة الأولى أُجريت على رسام محترف وشخص عادي طُلب منهما تلوين لوحة بألوان مائية بعد ارتداء نظارة تقلب ما يراه المتسابق أمامه، والنتيجة هي أن لوحة من لا ينتمي للفن بصلة جاءت أكثر إتقاناً لأنه ببساطة أعطي النظارة لأربعة أيام ليجربها قبل المسابقة دون علمه بالمهمة التي سيقوم بها. أما التجربة الثانية فهي تنظيم مسابقة لحل لغز المتاهة بين سائق تاكسي في لندن غير متعلم، ودكتور في الرياضيات متخصص في دراسة الاحتمالات، عُرض على الاثنين صورة لمتاهة تم تصميمها في حديقة الجامعة، وطُلب من الاثنين إحضار أعلام معلقة داخلها، اللعبة انتهت بتتويج سائق التاكسي لأنه ببساطة اعتاد لسنوات من الخبرة على حساب أفضل الاحتمالات في اختيار الطرق والاستدلال على الأماكن. خلاصة القول إن وزارة التعليم والجامعات السعودية مدعوة لإعادة النظر في سياساتها التعليمية القائمة على حل لغز المتاهة من دكتور الرياضيات، بينما يستطيع سائق التاكسي أن يحلها بصورة أفضل، أما الصورة المثالية بالتأكيد فهي أن يُعطى سائق التاكسي الفرصة ليُكمل الدراسات العليا ويصبح معلماً في حساب الاحتمالات، أليس كذلك؟!