في بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م كنا مجموعة خليجيين في ضيافة صديق في قرية حمانا على بعد حوالي 30 كم من بيروت وكانت المناوشات تشير بشكل واضح إلى أن حربا أهلية قد بدأت فعلا. أما وقد اندلعت الحرب - قال أحدهم - ستكون حربا طويلة لسوء الحظ وتكلفتها مدمرة ولن تنتهي بانتصار أحد وسيدفع كل اللبنانيين والفلسطينيين أثمانا باهظة في الأرواح والممتلكات، لكن اللبنانيين في النهاية سينتصرون على أنفسهم وسيعودون إلى نظامهم الديمقراطي الذي لا يصلح إلا لهم ولا يصلحون إلا به. هكذا سارت الأمور وانتهت الحرب وانخرطت لبنان في مطبات شائكة ومشاحنات سياسية دائمة، وتجارب عنفية مؤلمة وصولا إلى الفراغ الدستوري وما تلاه من فراغ كرسي رئاسة الدولة وحكومات مشلولة «بقوة التعطيل» الدستوري الذي طرأ على التحالفات السياسية وأربك العمل الحكومي، وعطل انتخاب رئيس جديد على مدى عامين تقريبا. حافظ اللبنانيون خلال تلك التجارب العصيبة الداخلية والخارجية على «استمرار الدولة» وعلى الشعب اللبناني على الأخذ بأعظم درس من دروس الحرب التي عاشوا ويلاتها يقضي بعدم العودة للحرب تحت أي دعاوى أو مبررات. الحفاظ على استمرار الدولة اللبنانية مهما كانت ضعيفة كبديل مؤقت يجنب لبنان تفكك المحيط الإقليمي وحروبه. تلك كانت قناعة راسخة ومضمرة بين الفرقاء السياسيين بما فيهم من حاول أن يلعب بالنار في أكثر من مناسبة. الحفاظ على الفراغ المؤسساتي الذي حدث في السنتين الأخيرتين دون الوقوع في إغراءات الداخل والمحيط الإقليمي نحو العنف، قد يكون الدرس الثمين الثاني بعد درس الحرب الأهلية. اليوم يعود لبنان لانتخاب رئيس جديد هو الجنرال عون الممثل الأكبر للمسيحيين مع الرئيس سعد الحريري ممثلا لقوة انتخابية موازية في توليفة لم تكن منتظرة، لكنها تحظى بقبول من أغلبية القوى السياسية بشكل مباشر أو غير مباشر، كما تجلى ذلك في مراسم انتخاب رئيس الجمهورية أو من تصريحات السياسيين المتحفظين أو من كانوا في المعارضة. صحيح أن الإجراءات وحيثيات «التموضعات» الأخيرة لم تكن شفافة ومعاييرها لم تتضح بعد وكل ما قيل على لسان رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المكلف يمكن أن يكون حمال أوجه وبخاصة فيما يخص حزب الله الذي لم يفوض الحريري، وترك مهمة التفاهم مع العهد الجديد لرئيس مجلس النواب وزعيم حركة أمل السيد نبيه بري، لكن أجواء التفاؤل تسود الشارع اللبناني «والتغافل الحميد» يحظى بمساحة أكبر. وإذا كانت الديمقراطية اللبنانية تقوم على التوافق، وهو ما يشكل نقطة قوتها وضعفها، فإن وجود قوى ديمقراطية معارضة موجود وفاعل. لقد شكلت مؤسسات المجتمع المدني قوة دافعة لما آلت إليه التحالفات السياسية من صيغة للتعايش السياسي والمذهبي ويمكن القول بدون مبالغة أن مؤسسات المجتمع المدني ستكون الضمانة الأولى لوفاء العهد الجديد بتعهداته المعلنة وعدم الخلط أو التدليس في تطبيقها. هناك أيضا من صوتوا بالورقة البيضاء وهو موقف ديمقراطي لا يعارض لكنه لا يوافق على كل شيء، بل يراقب ويصوغ موقفه تبعا للحالة. في جريدة النهار البيروتية كتبت السيدة نادية تويني مقالا نشر قبل انتخاب الرئيس عون بساعات بعنوان (بالتصويت الأبيض والتوفيق للجنرال وعهده) جاء فيه «الأحداث التي تراكمت وأدت إلى صيغة الانتخاب المؤكد للجنرال عون لا تنسجم مع مبادئنا الثابتة التي تعاملت معها» «النهار» مع أزمة الاستحقاق الرئاسي منذ نشوئها إلى اليوم. نحن لا يمكن أن نسلم بانتخاب الجنرال عون كمكافأة للذين عطلوا الاستحقاق وشلوا البلد والدولة، فإذا بهذا الخيار يكرس منطق التسليم للتعطيل والمعطلين أيا كانت المبررات لهذا الخيار. لا يمكن تجاهل الأثر الخطير للخلل الداخلي الناجم عن عدم توفر الأصول الديمقراطية والذي جاء بمثابة إملاء لظروف قسرية توجت بمرشحين حصريين بحيث بتنا أمام تلك المعادلة الشهيرة «إما عون وإما الفراغ الأبدي». لو كان هناك لبننة حقيقية لما حدث تتويج اليوم لميزان مختل بفعل ممارسات التعطيل لمصلحة محور إقليمي معروف. وحتى لو قيل إن محورا إقليميا آخر بارك الصيغة فذلك لا يبدل واقع الاختلال. لدينا خلاف عميق مع خط الجنرال. نحن لا نرى أن القضايا الكبرى مثل تحييد لبنان عن الحرب في سوريا وهوية لبنان وسياسته الخارجية وحصرية امتلاك الدولة للسلاح، أخذت حقها من التعريف قبل خطاب القسم. اليوم، صوتي سيظهر على ورقة بيضاء مع التمنيات للجنرال بالتوفيق لأن نجاحه سيكون الرد الأفضل على كل معارض وخائف ومتحفظ ومشكك. أخيرا لبنان صمد بشعبه وقواه الحية وهو على أعتاب مرحلة جديدة قوامها السلم الأهلي فماذا عن الغد؟ أفضل مما... كان.