لماذا يقوم البشر وحدهم، من دون كل الكائنات الحية الأخرى، بابتداع تكنولوجيا متقدمة؟ منذ فترة ليست بالبعيدة، كان العلماء يعتقدون أن السبب في ذلك هو لأننا الشكل الوحيد للحياة الذكية على ظهر هذا الكوكب. ولكن هذا التفسير وحده لم يعد كافياً. فقد اكتشف العلماء في العقد الماضي أن الغربان تستطيع استخدام الأدوات وأن الضباع تستطيع أن تتعاون مع بعضها البعض لحل المشاكل المعقدة وأن طيور أبو زريق تستطيع أن تخطط لمستقبلها وأن الفئران يمكنها إظهار العواطف وأن البط الصغير قادر على التفكير المجرد. ومع ذلك تبقى تكنولوجيتنا مميزة عن غيرها. ولكن لماذا كنا الكائنات الحية الوحيدة التي استطاعت تغيير الكوكب؟ يأتي الدليل من ورقة بحثية حديثة تتعلق بالتغير الجيني الذي ساعد أجدادنا القدماء على تحمل الدخان بعد اختراع إشعال النار. كان هذا آخر دليل على زيادة قوة قناعتنا بفكرة أن الاختيار الطبيعي عمل على جنسنا بطريقة فريدة. وعلى الرغم من أن التطور يجبر كل الأشياء الحية على التكيف مع البيئة الطبيعية المتغيرة، إلا أن مدرسة التفكير الجديدة هذه تعتقد أن هذا يجبر البشر أيضاً على التكيف مع اختراعاتنا نفسها. وبالفعل هناك دليل على أنه أعيد تشكيل أجسادنا بسبب اشتغالنا بالزراعة أو إنتاج الحليب واستخدام الأدوات الحجرية والرماح وترويض النار. وقد ذكر العلماء، في ورقة بحثية، ربطت بين ترويض النار وبين التطور البيولوجي، ونشرت في أوائل هذا الشهر في مجلة البيولوجيا الجزيئية والتطور، أنهم تعرفوا على طفرة جينية سمحت لنا بشكل أفضل بتفكيك أكثر الكيميائيات سمية في مكونات دخان الخشب. وقد أظهر مؤلفو هذا البحث أن كل البشر في هذه الأيام يحملون هذه الطفرة، وهي غير موجودة في الشمبانزي، أو حسب ما توافر لهم من معلومات، في أي حيوان آخر. (والجدير بالذكر أن الثدييات الأخرى تشارك في العامل الوراثي نفسه، ولكن دون احتمال وجود هذه الطفرة الجينية المفيدة). اكتشف العلماء من كشط مادة الدي إن أي الوراثية من هياكل عظمية قديمة، أن هذه الجينات الطافرة كانت موجودة في عظام أسلاف بشرية عمرها 45 ألف سنة. والأهم من ذلك، وجدوا أيضاً أن إنسان النياندرثال (من الأجناس البشرية التي عاشت في العصر الجليدي في أوروبا منذ 120 ألف سنة إلى 35 ألف سنة)، كان يفتقر لهذه الطفرة، بالرغم من وجود أدلة وافرة على أنه اعتمد أيضاً على النار في طهي طعامه والحفاظ على جسمه دافئا. والسؤال هو: لماذا لم يكن يمتلكها؟ الجواب هو الحظ السيئ. لأنه في لعبة التطور يمكن أن تنتشر نسخ من الجينات الجديدة لأنها تمنح أفراد الجنس البشري ميزة البقاء والتكاثر، ولكن هذه التغيرات تظهر بداية من خلال صدفة عشوائية. لم تكن نسخة الجين، التي حصل عليها إنسان النياندرثال بالضرورة مميتة، ولكن المؤلف الرئيس لهذه الدراسة، غاري بيرديو، من جامعة بنسلفانيا، يصفها بأنها كانت عامل مخاطرة. وهو يقول إن استنشاق الدخان بشكل منتظم يمكن أن يؤدي إلى إضعاف جهاز المناعة، وبالتالي جعل الناس أكثر عرضة لخطر التعرض لمرض السل وأمراض معدية أخرى. لا توجد هناك طريقة لمعرفة ما إذا ساهم هذا في موت هذا الجنس من البشر، ولكن امتلاك ميزة جينية ربما ساعد سلالتنا على الازدهار بشكل أفضل. وهناك أمثلة مشابهة وفيرة. ومن ذلك ما لاحظه جوزيف هاينريش، الانثروبولوجي في جامعة هارفارد، في كتابه الذي نشره في عام 2015 تحت عنوان «سر نجاحنا: كيف تقود ثقافتنا تطور الجنس البشري، وتدجين جنسنا وجعلنا أكثر ذكاء»، وفيه قال إن اختراع حلب الحيوانات ساهم في انتشار الجينات، التي سمحت للناس بهضم سكر اللاكتوز. ولكن وقبل انتشار ذلك الجين إلى كل ما يرجح أن يصبح شارباً للحليب، فقد قامت بعض المجتمعات باختراع الجبنة واللبن الرائب، وهما اللذان يحتويان على مقدار أقل من اللاكتوز. ثم يحتمل أن هذه الاختراعات عملت بدورها على التقليل من تحمل انتشار حليب اللاكتوز. وهناك مثل آخر، وهو اشتباه بعض العلماء بأن الجينات التي سمحت لنا بهضم الكحول (قامت بعملية استقلابه)، ظهرت منذ 10 ملايين سنة تقريباً، بعدما نزلت أسلاف القرود عن الشجر وتغذت على الفواكه المتخمرة جزئياً. ومع ذلك يقترح هاينريش أن اختراع نبيذ الأرز في آسيا سرع في انتشار نوع آخر من الجينات، وهو الذي دفع الناس للقرف منه ثم غسله بكميات وفيرة من الماء إذا شربوا كثيراً منه، وبالتالي حمايتهم من مخاطر الفائض منه. وبالمثل، بيَّن الانثروبولوجي، دانييل ليبرمان وزملاء له في جامعة هارفارد في عام 2013، وجود صلة بين اختراع الرمح وقدرة البشر على رميه، حيث قال: «نحن الجنس الوحيد القادر على الرمي بقوة وبسرعة وبدقة في الوقت نفسه». وفي ورقة بحثية أخرى، قال ليبرمان وزملاؤه إن اختراع الأدوات الحجرية اللازمة لتقطيع اللحم سمح لأسنان الجنس البشري وفكيه بالتقلص، وربما السماح له ليكون متكيفاً أكثر ليصبح قادراً على التكلم. قال ليبرمان، يعتقد بعض الناس أن التطور توقف، لأن التكنولوجيا الحديثة سمحت لنا بالتكيف مع التحولات الغذائية والمناخية، وحتى مع أمراض جديدة دون مساعدة آلية الانتقاء الطبيعي. ولكنه قال إن ذلك خطأ. فقد عملت التكنولوجيا على تسيير التطور لمدة طويلة، ولا يوجد سبب يدفعنا للاعتقاد بأن هذا الجانب سيتوقف، على الأقل، ما لم يحدث انقراض لجنسنا البشري الحالي.