وقع الاختلاف بين معاوية وعلي في توقيت الاقتصاص من قتلة عثمان، فمعاوية كان يرى المبادرة به وأنه وليه في الدم، وعلي يرى تأجيله حتى تهدأ الفتنة ويستقر أمر الناس ثم يقتص له، ولذلك الاختلاف وقع القتال بين أهل الشام وأهل العراق في معركة الجمل ومعهم عدد قليل من الصحابة، والحق فيه أقرب إلى علي، وإنما تبين ذلك بجلاء بعد تحقق قتل عمار من قبل طائفة من عسكر معاوية فصدق ما صح عن رسول الله من قوله: «تقتل عمار الفئة الباغية». والواجب حسن الظن بالصحابة جميعا من الطائفتين، وحملهم على التأول والاجتهاد لبلوغ الحق فهم جميعا معذورون، نستغفر لهم ونترضى عنهم ونمسك عما شجر بينهم وأمرهم إلى الله. ولذلك قال ابن تيمية: «ثم إن عمّارا تقتله الفئة الباغية، ليس نصَّا في أن هذا اللفظ لمعاوية وأصحابه، بل يمكن أنه أريد به تلك العصابة التي حملت عليه حتى قتلته وهي طائفة من العسكر، ومن رضي بقتل عمّار كان حكمه حكمها، ومن المعلوم أنه كان في المعسكر من لم يرض بقتل عمار كعبدالله بن عمرو بن العاص وغيره، بل كل الناس كانوا منكرين لقتل عمار حتى معاوية وعمرو». لقد انعقد اتفاق معظم أهل السنة بعد مقتل عمار على أن عليا كان أقرب للحق من معاوية، وأن من اعتزل الفتنة كان أقرب للحق ممن اشترك فيها، لعموم قول رسول الله في الصحيحين: «لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض»، وللنصوص الواردة في التحذير من الفتن، ومنها قوله في الصحيحين: «ستكون فتن القاعد فيها خير من القائم والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي»، وقوله عليه الصلاة والسلام في صحيح البخاري: «يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن». ولذلك احتج بهذه الأحاديث كثير من الصحابة في تعليلهم الامتناع عن الخروج للقتال مع أحد الفريقين من المسلمين، وأنها فتنة، ولذلك لما هاجت الفتنة روي أنه لم يحضرها من الصحابة إلا عدد يسير جدا، روى ابن بطة بإسناده عن بكير بن الأشج قال: «أما إن رجالا من أهل بدر لزموا بيوتهم بعد قتل عثمان فلم يخرجوا إلا إلى قبورهم». وقد أخرج البخاري في الصحيح عن رسول الله قوله عن الحسن: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين». وقد أصلح الله به بين فئة علي وفئة معاوية كما أخبر عليه الصلاة والسلام، وفي الحديث ثناء عليه وعلى الصلح الذي كان على يديه، وسماه سيِّدا لأن ما فعله الحسن يحبه الله ورسوله، ولو كان الاقتتال بين المسلمين هو الذي يرضي الله ورسوله لما أثنى على ذلك الصلح، ولكان الحسن قد ترك ما يحبه الله ورسوله، وهذا النص الصحيح الصريح يبين أنهما طائفتان عظيمتان من المسلمين وأن ما فعله الحسن محمودٌ مرضي، وأن ترك القتال كان أحسن، وأن القتال لم يكن واجباً ولا مستحباً. أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان، وتكون بينهما مقتلة عظيمة، ودعواهما واحدة»، فالأحاديث الصحاح تبين أن كلتا الطائفتين دعوتهما واحدة وأنهما تسعيان للحق، وتتبرآن من الهوى واتباع الباطل، وهذا الحديث يثبت أنهما على دعوة واحدة مع اقتتالهما، قال تعالى: «وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما». وأخرج مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تمرق مارقة عند فرقة من المسلمين، يقتلها أولى الطائفتين بالحق»، وهذا الحديث يثبت أن كلتا الطائفتين تنشد الحق وأنهما جميعا على الايمان وأن الحقّ مع طائفة علي لأنه هو الذي قاتل الخوارج في النهروان وهي الطائفة المارقة فرضي الله عنهم جميعا.