ظل فولتير في كتابه (قول في التسامح)، ينبه باستمرار إلى ضرورة اختيار مسلك العقل للشفاء من داء التعصب، وتحصيل التسامح، معتبرا أن التعصب عدو العقل وطارد له، وأراد الاستفادة من أجواء الغلو والتعصب لإشاعة أنوار العقل، وتأكيد الحاجة إلى العقل بوصفه منبعا للتسامح وسياجا حاميا له. فمن جهة، رأى فولتير أن التعصب هو مرض ذهني ومواجهته بفاعلية العقل أفضل من استعمال القوة، وحسب رأيه إن العقل معتدل وإنساني ويدعو إلى الرحمة، ويقلص من حجم الخلاف، ويرسخ الفضيلة، ويحبب طاعة القوانين أكثر مما تقوم بذلك القوة. ومن جهة ثانية، حاول فولتير تثبيت مقولة أن زمنه هو زمن العقل لكي يقدم خطاب اطمئنان لمجتمعه، ويبشر بنهاية تاريخ التعصب والاضطهاد، وليدفع الناس للسير في هذا الدرب العقلاني، مع تأكيده أن لا خشية على النظام العام من العقل، فحين وصل التنازع بين المسيحيين الكاثوليك والبروتستانت في فرنسا إلى نهايته، وجد فولتير أن هذا هو زمن العقل، ودعا للنظر إلى هذا الزمن باعتباره مرحلة هدوء عام. وما يسجل على هذه الملاحظة، أن هذه التنبيهات على العقل والاحتكام إليه، وتنمية ثمراته، جاءت متفرقة ومتناثرة، ووردت في عبارات موجزة ومقتضبة، كانت بحاجة إلى مزيد من الإضاءة لاستظهار قوة المعنى لمفهوم العقل، كما أن فولتير لم يتقصد إبراز هذا المفهوم وجعله في الواجهة، فلم يرد أبدا في عناوين مقالاته التي وصلت إلى ستة وعشرين هي مجموع مقالات كتابه. من جانب آخر، إن التسامح الذي تحدث عنه فولتير تعلق بالمجال الديني، واتجه خطابه بصورة رئيسة إلى الجماعة الدينية المسيحية، وحضر في هذا النطاق الحديث عن جماعات عدة تنتمي إلى المجال الديني المسيحي، مثل: الكاثوليك، والبروتستانت، واليسوعيين، وجماعات أخرى صغيرة، كما جرى الحديث عن اليهودية والبوذية وعن الهند والصين واليابان، والسؤال: هل حضر الإسلام في خطاب فولتير وما هي صورته؟ وكيف تمثل هذا الحضور؟ هذا السؤال لا بد من طرحه، وجعله في دائرة الفحص والنظر، وهناك حاجة لتكوين المعرفة به، باعتبار أن الإسلام دين عالمي عرف عنه احتكاكه مع الأديان الأخرى اليهودية والمسيحية، وتواصله مع الحضارات والمجتمعات الإنسانية في أوروبا وغيرها. وعند النظر وجدت أن كلمة الإسلام لم ترد أبدا في كتاب فولتير، كما لم ترد كلمات مثل: مسلم ومسلمين وعربي وعرب، لكن وردت كلمات أخرى لها علاقة بالمجال الإسلامي مثل: (المحمديون، التركي، التركية)، وجاءت هذه الكلمات بطريقة عابرة لا تلفت الانتباه إلا في حالة واحدة، لكون أن هذه الحالة اتصلت بسياق يشير إلى معنى في التاريخ. وتحددت هذه الحالة، حين أراد فولتير أن يلفت نظر المسيحيين إلى التسامح في المجتمعات الأخرى التي تعددت فيها المذاهب والديانات، وفي هذا النطاق تمت الإشارة إلى الحالة التركية. وبهذا القدر من التنويه يفهم أن الإسلام كان بحكم الغائب، ولم يكن متمثلا في خطاب فولتير حول التسامح. وأخيرا: ما هي أهمية وقيمة خطاب فولتير التسامحي اليوم؟ وماذا بقي من كتابه؟ هذا السؤال المزدوج يمكن النظر له في نطاق المجالين الأوروبي والإسلامي، في المجال الأوروبي يمكن القول إن رسالة فولتير التسامحية قد تحققت على صعيد الداخل الأوروبي، وأخفقت على صعيد الخارج. على صعيد الداخل تمكنت أوروبا من تجاوز تاريخ التعصب والتنازع بين المذاهب والجماعات الدينية هناك، وتخلصت من نزعات العنف والقوة وانتقلت إلى وضعيات السلم والتعايش، وبهذا تكون أوروبا قد حققت نجاحا باهرا، وبرهنت على إمكانية عبور الجماعات الدينية المتنازعة من تاريخ التعصب والاضطهاد إلى تاريخ آخر مختلف يتخذ من السلم والحوار نهجا وسبيلا. أما على صعيد الخارج، فقد أخفقت أوروبا لكونها نقلت تاريخ الاضطهاد من الداخل إلى الخارج، حين تعاملت مع الأمم والمجتمعات الأخرى غير الأوروبية بسياسات وصفت بالإمبريالية، وأفرزت ظاهرة هي من أخطر الظواهر التي عرفها التاريخ الإنساني الحديث، هي ظاهرة الاستعمار التي قبحت صورة أوروبا في العالم. والمؤسف أن الجماعات الدينية هناك وقفت وساندت هذه السياسات الاستعمارية، بخلاف ما دعا إليه فولتير الذي أراد أن يصل بالمسيحيين إلى ما أسماه التسامح الكوني، وشرحه في مقالة مهمة له حملت عنوان: (حول التسامح الكوني). أما في المجال العربي والإسلامي فهذه هي اللحظة التاريخية لكتاب فولتير وخطابه التسامحي، وكأن دورة تاريخية مرت على هذا الكتاب وخطابه، بدأت لحظتها الأولى في النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي في أوروبا ومضت منها، وحان ميعاد لحظتها الثانية عندنا في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين. هذه اللحظة بالنسبة لنا، تنبه لها مترجم الكتاب سعيد بن كراد الذي رأى أن كتاب فولتير مثل مرافعة رائعة من أجل التسامح والتآخي ونبذ العنف والتعصب، ووجد أنه لا يذكرنا بما يجري الآن عندنا فحسب، بل نقرؤه وكأنه معاصر لنا، فهو يصف بالحرف ما يجري في الفضاء الإسلامي، ويكفي أن نغير أسماء الفرق وأسماء الأعلام، لكي ينطبق كل ما يقوله على حالتنا، إن الصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، هو أشبه بما يجري بين فرق إسلامية الآن. ولهذا يرى ابن كراد أن كل ما في هذا الكتاب هو تصوير لحالتنا، إنه يذكرنا أننا مثلهم في القرن الثامن عشر لا يمكن أن نستمر في الوجود إلا بالتسامح، وحين قال فولتير عن كتابه إنني ألقي ببذرة يمكن في يوم من الأيام أن تعطي نبتة، عقب ابن كراد على هذا الكلام بالقول: وقد نكون نحن في عالمنا الإسلامي أول وآخر من يلتقط هذه النبتة ويعتني بها، فقد تعطي ثمارا تجعل حضارتنا قادرة على احتضان كل أبنائها باختلاف دياناتهم ومذاهبهم وطوائفهم.