ظهر جون لوك في رسالته حول التسامح ملتزما بالإيمان الديني، ومدافعا عن التجربة الدينية، ومتمسكا بالتعاليم الأخلاقية، كما لو أنه مفكر ديني وينتمي إلى الفكر الديني، أما الرسالة فهي أقرب إلى مجال الفكر الديني، أو أنها تقف على تخومه، ولا تتفارق معه أو تعانده وتخاصمه. وما لفت الانتباه إلى هذا التعلق بالجانب الديني في رسالة لوك، كون أن لوك فيلسوف وفي عداد الفلاسفة الكبار في تاريخ الفلسفة الأوروبية الحديثة، وحين تحدث الباحث الأمريكي وليم كلي رايت (1877-1956م) في كتابه (تاريخ الفلسفة الحديثة) الصادر سنة 1941م، عن موجز سيرته تمهيدا للحديث عن أفكاره، ختم كلامه بالقول: وعرف لوك بوجه عام بأنه فيلسوف العصر العظيم. من جانب آخر، أن الأطروحة التي دعا إليها لوك في الفصل التام بين المؤسسة المدنية المتمثلة في السلطة ومجالها الدنيوي، وبين المؤسسة الدينية المتمثلة في الكنيسة ومجالها الروحي، هذه الأطروحة هي التي حصلت وتحققت في العالم الأوروبي، وأسهمت في إنقاذ الدولة الأوروبية الحديثة، وأخرجتها من محنة الفتن والحروب الدينية، كما أسهمت كذلك في إنقاذ مؤسسة الكنيسة، وأعادت التوازن الديني والسياسي في العلاقة بين السلطة والكنيسة. هذه الأطروحة اتخذت من التسامح حكمة وفضيلة، مبدأ وأساسا، وجهة ومسارا، بقصد تعطيل ومنع استعمال القوة والإكراه في فرض الآراء على الناس، وفي العلاقات بين الجماعات الدينية المتعددة، وهكذا في العلاقات بين الجماعات الدينية والجماعات المدنية، ودعت في مقابل ذلك لإضافة قاعدة العدالة في التعامل مع الآخرين المختلفين، إلى جانب العمل بالإحسان والمحبة. ومن هذه الجهة، تكون هذه الأطروحة قد حققت نجاحا يذكر لها ويسجل في هذا الشأن، وباتت تعرف به وتمتاز، ما جعل هذه الأطروحة تصبح في دائرة التذكر، النجاح الذي دعم مفهوم التسامح، ودفع به إلى الواجهة. ومن جهة النقد، حصر لوك خطاب التسامح في المجال الديني، وتحدد في نطاق التسامح الديني المسيحي، وعرفت رسالته بهذه الصفة، وانحصرت بهذا الموضوع وتحددت به، وأفصح لوك عن هذا الأمر في مفتتح رسالته، ومنذ السطر الأول بقوله: سألتني أيها الرجل النبيل -يقصد صديقه فليب فان لمبروش- عن رأيي في التسامح المتبادل بين المسيحيين، وإني أجيب بإيجاز أن هذا فيما يبدو لي هو المعيار الأعلى للكنيسة الحقة. هذا الحصر والتحديد تكشف بسهولة عند كل من نظر في هذه الرسالة ودرسها وبحث فيها، وأصبح أمرا موضع اتفاق بين الكتاب والباحثين، أوروبيين وغير أوروبيين، لا يجادلون عليه ولا يختلفون. وكان واضحا ومفهوما لماذا اعتنى لوك وركز على قضية التسامح الديني، باعتبارها القضية التي مثلت في عصره أخطر معضلة واجهت المجتمعات الأوروبية، إذ شهدت حروبا دامية وعنيفة وصفت بالحروب الدينية، كحرب الثلاثين عاما التي عاصرها لوك وحصلت بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا خلال الفترة الممتدة ما بين (1618-1648). لهذا فإن لوك كان محقا حين اعتنى وركز على قضية التسامح الديني، لكن الذي لم يكن مفهوما هو أن لوك لم يوضح لماذا هذا الحصر والتركيز على التسامح الديني؟ ولماذا لم يتطرق أو يقترب لا من قريب ولا من بعيد من الأقسام الأخرى للتسامح؟ فهل في نظر لوك أن التسامح ينحصر ويتحدد في المجال الديني فحسب! أم أن التسامح في نظره ليس إلا نوعا واحدا يتحدد في التسامح الديني، وليس هناك أنواع أخرى ولا أقسام متعددة! ولو كان لوك من طبقة رجال الدين وينتمي إلى مؤسسة الكنيسة، وكتب ما كتب في رسالته، لأصبح مفهوما لماذا حصل الحصر والتركيز على التسامح الديني من دون الالتفات إلى الأقسام الأخرى! لكن لوك يعد من طبقة رجال الفلاسفة ومن كبار هذه الطبقة في عصره، وهذا ما أثار الانتباه إلى هذه الملاحظة، وضاعف من التأكيد عليها. عرفنا أن موضوع الرسالة يتصل بالمجال الديني المسيحي، ويتعلق بمفهوم التسامح الديني، والسؤال ماذا عن الإسلام والموقف منه بوصفه دينا عالميا وقد عرف عنه احتكاكه المتواصل ولقرون عدة مع المسيحية في مجتمعاته وفي مجتمعاتها؟ هذا سؤال جاد وفي غاية الأهمية، وينبغي طرحه وإثارة النقاش حوله، وأظنه لم يطرح من قبل، فهل حضر الإسلام في رسالة لوك أم كان غائبا، وإذا كان حاضرا فما صورته وتمثلاته؟ هذه الملاحظة كنت قد تنبهت لها حين طالعت الرسالة، وبقيت متتبعا لها، قاصدا تكوين المعرفة بها، ووضعها في دائرة الفحص والتحليل. وبعد الفحص والتدقيق وجدت بعض الإشارات، ويمكن تحديد ملامحها وصفا وتوصيفا، حسب الترجمة العربية التي أنجزها الدكتور بدوي على النحو الآتي: أولا: وردت كلمة «مسلم» وتكررت أربع مرات، ثلاث مرات من دون ال التعريف، ومرة واحدة مع ال التعريف، ووردت كلمة «الإسلام» مرة واحدة فقط، ووردت كلمة «القرآن» مرة واحدة كذلك في نهاية الرسالة. ثانيا: وردت كلمتان لهما علاقة بعالم الاجتماع الإسلامي، هما: كلمة «السلطان العثماني»، وكلمة «التركي» بصيغة المفرد، وكلمة «الأتراك» بصيغة الجمع. في إشارة إلى أن صورة المسلم كما وردت في الرسالة قد تحددت من ناحيتي المثال والاجتماع في المسلم التركي على عهد الدولة العثمانية. ثالثا: في حالتين وردت كلمة «مسلم» وجاءت عطفا ومتصلة بكلمتي «وثني ويهودي»، وهما: في الحالة الأولى وردت على هذا النحو: (وماذا إن بدا لأمير وثني أو مسلم أن الدين المسيحي باطل؟ أفلا يحق له إذن بمقتضى هذه الحجة أن يستأصل المسيحيين بنفس الطريقة؟) وفي الحالة الثانية وردت بهذا النحو: (لا يجوز استبعاد وثني أو مسلم أو يهودي من الدولة بسبب دينه، إن الإنجيل لا يأمر بشيء كهذا). رابعا: إن الخطاب في جميع هذه الحالات التي وردت فيها كلمات «مسلم، المسلم، الإسلام، التركي، الأتراك» كان موجها حصرا وتحديدا إلى الجماعة المسيحية، فالخطاب عنها ولها، ولم يكن موجها أبدا إلى الإنسان المسلم أو الجماعة المسلمة، أو إلى الطرف الآخر المختلف. وحاصل الكلام في هذه الملاحظة، أن في خطاب الرسالة وردت إشارات لها علاقة بعالم الإسلام، لكنها إشارات جاءت عابرة ومحدودة، وخلت من الكلام والبيان، ولا تقدم صورة عن عالم الإسلام، ولا تكشف عن رؤية لوك تجاه عالم الإسلام.