التقاعد كلمة سرت في مجتمعنا المعاصر كسريان اللهب في الهشيم أو كسريان قطرة المطر في رمل الربع الخالي أو – وهو الأجمل – كسريان النسغ في الأعواد كما يقول أحد الشعراء، التقاعد من مادة (قَعَدَ).. وابن فارس يقول إن القعود يأتي من قيام لأن العرب قالت: قام وقعد.. أو أقام الدنيا ولم يقعدها.. وأما الجلوس فهو- كما هو ظاهر- مرادف للقعود ظاهراً ولكن حقيقته أن يأتي بعد اضطجاع. والتقاعد في العُرف الاجتماعي أو في المصطلحات الوظيفية المعاصرة هو التحرر من العمل والخلاص من الروتين اليومي المتعب والتقاط الأنفاس والاسترخاء النفسي والعصبي والعضلي بعد مصاحبة التوتر. التقاعد هو الجلوس في المنزل ومصاحبة التلفاز والمذياع، والنوم لعدة فترات في فترة ما بين صلاة الفجر إلى ارتفاع الشمس في رابعة النهار ثم الالتفات إلى جريدة أو جرائد الصباح.. هذا هو المفترض... ولكن قد اختلفت مع كثير من المتقاعدين من حيث النظرة إلى التقاعد. فمنهم من يعتبرها نقطة تحول في حياة الشخص من عدة جوانب. أهمها: الراحة من المسئولية في العمل وهمومه وقيوده. ومنهم من يعتبرها موتاً بطيئاً ولكن منهم من يعتبرها بداية وانطلاقة لحياة أفضل.. ومنهم من يعتبرها إعادة حسابات. لما مضى من العمر كيف كان مع زوجته وأولاده وأفراد أسرته وأقاربه وأصدقائه وجيرانه ومجتمعه.. ومقدار تقصيره في ذلك لتصحيح ذلك.. ومن هؤلاء المتقاعدين من يرى فرصة التقاعد فرصة ذهبية للسفر والتنزه. وقليل من هؤلاء بل قليل جداً من يعتبر التقاعد فرصة طيبة للقراءة والاطلاع والتفرغ للعبادة والأعمال الخيرية.. ولكن هناك هاوية ساحقة في بعض عوالم المتقاعدين وتلك الهاوية من يعتبر التقاعد فراغاً مملاً بل مميتاً يولِّد الكثير من المشاكل مع الزوجة والأبناء يصاحبه حالات نفسية وعصبية تثير المشاكل والمشاحنات والاضطرابات أما التقاعد بوجه عام فهو دون شك محطة استراحة من عناء متواصل طوال أيام العمر لأنها شبابه ورجولته وربما شيخوخته. التقاعد فرصة لصفاء الذهن وراحة البال والعمل المفيد.. ومما يخطر على بالي في هذا المجال هو أن البعض يقتني مزرعة ويعمل بها مجلسا ويقضي معظم أوقاته في اجتماعات مع أصحابه يحتسون القهوة والشاي ويمارسون بعض الهوايات ويقضون على وقت الفراغ قضاءً مبرماً دون فائدة . متقاعد عندما سألته كيف يقضي وقته من صبحه إلى نومه في المساء فقال: أنا لست بتاجر ولا أديب ولا مهني ولا أفهم في التجارة والأعمال الحرة وخطتي اليومية عادية جداً وليست مثالية يقتدى بها.. يومياتي مرنة قابلة للتغيير خلال اليوم الواحد فأنا ولله الحمد مواظب على الصلاة في مواعيدها أقرأ القرآن والجرائد وبعض الكتب أقوم بزيارة الأهل والأصدقاء بالإضافة للجلسات العائلية مع الأبناء والأحفاد والاستمتاع بمشاهدة التلفاز ومتابعة بعض البرامج والأخبار. ومن الملاحظ اختلاف جدولة الأعمال اليومية لدى المتقاعدين وذلك على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم وميولهم ورغباتهم. ومن الملاحظ أيضاً أن السعي لإيجاد عمل آخر ليس هدفاً أساسياً إلا لمن تضطره ظروفه المالية القاسية لذلك. والمحصلة الأخيرة أن التقاعد هو المحطة الأخيرة في حياة الإنسان مهما اختلفت النظرة له. والواجب علينا أن نحمد الله أن مد في أعمارنا ومتعنا بالصحة والعافية ووصلنا بسلام إلى تلك المحطة. ومن طريف ما قاله الشاعر الموهوب الأستاذ صلاح بن هندي تحت عنوان (فرحة التقاعد): أخيراً جئت يا زمن التقاعد فأهلاً بالحبيب وبالمساعد وأهلاً بالذي أرتاح فيه بنومي حين تغشاني الوسائد فلا التوقيع يزعجني صباحاً فأصحو باكراً والطير راقد (أكَوَّكُ) ساعتي من فرط حرصي ل (تخرش) عند أذني في المراقد ولكن التقاعد فيه أنسى وفيه ما أشاء من الفوائد وأما الشاعر الظريف محمد الجلواح فيقول معارضاً صفي الدين الحلي: قالت: (تقاعدتَ)، قلتُ: عن (عَمَلي) قالت: تباعدتَ، قلت: عن مَلَلي قالت: تراجعت قلت: في طلبي عن هجركِ المُرِّ رغم هجركِ لي!! قالت: تغربتَ، قلتُ: في ولهي إليكِ حتى يئستُ من أملي.