من يتابع جُلْ التقارير التي تُنتجها وسائل الاعلام الغربية عن ليبيا، وتتطرق للوضع الدائر فيها يجد ان هناك تعبيراً اصبح يشكل قاسماً مشتركاً في اغلب تلك المواد، وهو باختصار تعبير "الغرق في الفوضى". ولا يخفى على فطنة القارئ الكريم الدلالة المدمرة لذلك التعبير، اضافة الى خطورة فهم الحالة والأوضاع التي تسود البلاد الليبية من جنوبها الى شمالها. وبعد فشل مجلس النواب عقد جلسة كانت مقررة في 28 مارس في مدينة طبرق للبت في مصير حكومة التوافق وإنهاء اللغط الذي يدور حولها، تواصلت مع صديق ليبي يقيم في المهجر واستوضحت منه الخطوة القادمة بعد فشل هذه المحاولة التي وصفتها انا بالخامسة او السادسة في سلسلة الفشل في جمع النواب والتقريب بين وجهات نظرهم في هذا الوقت الحرج جداً. صديقي رد وهو يتألم وأكد لي أن أي حديث عن جلسة قادمة يقال انها مصيرية وستنهي هذا الدوران حول النفس ستلاقي نفس الفشل، وسيكون هناك دعوات وجلسات ولقاءات سابعة وثامنة وربما أكثر ولكن كل ذلك بدون نتيجة. كان رأي الرجل صادما ويعكس حالة من الحصار التي تفرضها الاطراف والشخصيات الليبية حولها دون وعي. الغريب في مقاربة الوضع الامني والعسكري والسياسي في ليبيا على مستوى الداخل وتعدد الاطراف الفاعلة فيه ان المراقب يتلمس حالة اغتراب خارجي شبه عامة بين الليبيين، فالمجلس الرئاسي لحكومة الوفاق التي حصلت على الشرعية الدولية ودعم المنظمة الدولية، وحظيت بإعلان يبطل ما سواها من الجهات التي تحاول ممارسة العمل الرسمي في البلاد الليبية سواء السياسي او الاداري او العسكري، وجدنا هذه الحكومة بمجلسها الذي يعبر عن رأس الدولة محاصر في العاصمة تونس، واكثر من ذلك غير قادر لا المجلس ولا الاعضاء ولا حتى السيد رئيس هذه الحكومة السيد فايز السراج على الذهاب الى الارض الليبية ومباشرة مهام الحكومة الموعودة من العاصمة طرابلس. ومن اطرف واغرب ما تناقلته الاخبار عن المجلس الرئاسي وحكومة الوفاق انهم اصبحوا محل تخمينات الليبيين في الداخل، حيث يتساءل الناس، هل وصلوا الى طرابلس ام لا. وبدأ الاسبوع والطائرة المقررة لنقل الحكومة وأعضائها هي الاخرى جاثمة على التراب التونسي، وعند التهديد بالدخول عنوة الى العاصمة لجأت من أسميت في وسائل الاعلام الليبية بالاطراف المعرقلة للوفاق لوضع الحواجز الحقيقية. الليبيون يعرفون المعرقلين ويسمونهم بالاسم، والاممالمتحدة تتحدث منذ 2013م عن عقوبات رادعة على كل من يعرقل مسيرة العمل السلمي في ليبيا. و للأسف لم يُعرف حتى الآن تطبيق صارم وحقيقي لشيء من ذلك. الإشارة الخطيرة جاءت منتصف الاسبوع المنصرم بتصاعد دراما الحصار الى نقطة وقف اعمال الملاحة في مطار معيتيقة او قاعدة معيتيقة العسكرية التي تأتمر لأطراف سياسية وعسكرية ايديلوجية محددة، ترفض الوفاق وحكومته بشكل مطلق. الاممالمتحدة ومبعوث الامين العام، ورئيس بعثة الدعم الدولية الى ليبيا السيد مارتن كوبلر.. رفضت الاطراف التي وصفتها بيانات المجلس الرئاسي بالمعطلة لجهود قيام الوفاق قبل ايام السماح لطائرة ممثل الامين العام بالهبوط في طرابلس وشكلت هذه النقطة حرجا شديدا للامم المتحدة. لأن الاممالمتحدة اعلنت قبل اسابيع أنها قد تحتوى الحكومة والمجلس الرئاسي في المباني المخصصة للبعثة الدولية في العاصمة طرابلس. كل إشارات الحصار هذه تعزز من دور الاستقواء بالميليشيا وتجعل الامن في العاصمة وأحيائها وبين الفصائل والفرق والدروع في حالة من الرخاوة، والهشاشة قابلة للانفجار وبقوة. والسبب ان المجلس الرئاسي اعلن الاسبوع الماضي عبر ما وصف بالترتيبات الامنية في العاصمة عن عدد من التجمعات العسكرية وأناط بها مهمة حماية وتأمين الحكومة والعاصمة على اعتبار انها اي هذه التجمعات، والقوى المسلحة ستشكل، او تتشكل منها نواة للجيش الليبي. وهذا في رأي اكثر من مراقب خطأ فادح إن تم؛ لأن الأسس التي تتشكل عليها هذه القوى مهما كانت الأدوار المناطة بها تبقى بعيدة عن الرمزية الوطنية العامة التي يجب ان يتصف بها الجيش، وتتعارض مع تجارب الدول المعاصرة في اقامة وانشاء الجيوش الوطنية. الأمر الذي ربما يستعصي على فهم اهل السياسة في البلاد الليبية اليوم هو ان الجيش مؤسسة تنبت في الارض مثل الاشجار، ويجب ان تسوى لها الأرض وتحرث ثم توضع البذور ويتولاها الناس، كل الناس الليبيين والليبيات بالعناية والرعاية حتى تغدو اشجارا سامقة تمنح البلاد والعباد الثمار والظلال والأمن. ولا يتصور حتى من غير المختصين في مجال العسكرية والأمن ان تنشئ ميليشيا جهوية مناطقية قبلية جيشا لوطن!! الغريب ان هذه الفكرة.. -اي الاستعانة بميليشيا لتكوين جيش في المستقبل- لم تجد حتى تصويبا او مراجعة من الاممالمتحدة، ولا من دول الناتو وهي الاطراف التي تبدي حرصاً بيناً على دحرجة دواليب الوفاق بين الليبيين اكثر من غيرها. المحبط في هذا السياق ان الجيش الليبي او النواة التي تحظى بتعامل مع السلطات التي تملك الشرعية الدولية يعيش حالة الانهاك في بنغازي لما يقرب من عامين، ولم يحقق نتائج ملموسة في كفاحه مع المجموعات المسلحة متعددة الرؤوس والأوجه والأسماء، وفي ظل الحظر المفروض دوليا على امتلاكه للسلاح، تفيد التقارير الغربية المعمقة في هذا السياق والتي اعدت من قبل مؤسسة "قلوبل فاير بور" الامريكية، المتخصصة بدراسات القوات المسلحة في العالم، أن الجيش الليبي هو أضعف جيوش العالم بعد الجيش الصومالي في تقييم العام 2016م، وأن ترتيبه عالميا من حيث القوة، والضعف يحتل مرتبة الجيش رقم 122. امور كثيرة في البلاد الليبية تحتاج الى البناء والتقويم والتطوير، منها البشري والمادي والذهني، وما الجيش والدستور والدولة والوفاق إلا علامات ظاهرة قدرها ان تأتي في المقدمة ليدرك الناس انهم في حصار الداخل قبل حصار الخارج.