حيثما يممنا النظر، من حولنا لا نرى، في واقعنا العربي ما يبعث على البهجة والتفاؤل ، وليس هناك ما يشي بأننا على أبواب الخروج من الأزمة الراهنة.. حرائق تشتعل في العراق واليمن وسوريا وليبيا، واحتمالات التفتيت، وتبدو المجتمعات العربية، هي الأقرب، رغم وميض رفض لحالة التيه، هنا وهناك. والحرب على الإرهاب، لم يعد لها مسرح واضح، فقد تحولت إلى حرب عالمية، نعايشها في هذا الجزء من العالم، ليل نهار، وتمس بألسنتها، بقية دول العالم بين حين وآخر.. وليس ما حدث مؤخرا في بلجيكا، سوى بعض شظاياها وتداعياتها، موضحة أن الإرهاب ليس له وطن أو جنسية، وأنه لا يستهدف جنسا أو دينا بعينه، بل هو موجه للإنسانية جمعاء. في ليبيا تسع عشرة إمارة إسلامية، تتصارع فيما بينها، وأكثر من حكومة وبرلمان، يدعي كل منهم امتلاكه للشرعية، ويحجبها عن الآخرين. وفي سوريا دعوات للفدرلة، كمقدمة للتقسيم. أما العراق، فحدث ولا حرج. وفي اليمن، لا يبدو الأمر أقل سوءا. وقد اختزل الحلم، بهذه اللحظات، في محاولة احتواء تمدد الإرهاب، ومع ذلك فإن كل المحاولات لم تمنع انتشار عملياته في أرض الكنانة وفي تونس. ويقف الجزائريون موقف الحذر خوفا، من عودة انبعاث الإرهاب، الذي عانت منه بلادهم، منذ مطالع التسعينيات من القرن المنصرم، والتي تشير بعض الإحصائيات الى أنه تسبب في مصرع قرابة ربع مليون من البشر. في هذه السنة، وبعد شهور قليلة، سنشهد مرور مائة عام، على توقيع اتفاقية سايكس- بيكو عام 1916، والتي قسمت الهلال الخصيب، بين البريطانيين والفرنسيين، وهيأت لتأسيس الكيان الغاصب، على أرض فلسطين، تأسيسا على وعد بلفور، الذي وعد اليهود بإقامة وطن قومي لهم، على أرض السلام. وفي هذه الأيام أيضا، بدأ العدوان على العراق، والذي انتهى بسقوط عاصمة العباسيين، في 8 ابريل عام 2003، وليقدمها المحتل الأمريكي لاحقا، على طبق من ذهب، لملالي طهران. ويجري تدمير الدولة العراقية، كيانا وهوية، وفي عملية التدمير، يجري القتل الممنهج على الهوية، ويعزل العراق، عن محيطه العربي، ويغدو العراقيون، في وطنهم، جالية عربية، في محيط يرفض العروبة، ويتنكر لحضورها العريق، الحضور الذي صنع تاريخ العراق، وجعلها ركنا رئيسيا، من أركان النهضة العربية. صدمة السؤال ومجددا يصدمنا السؤال، لماذا تعطلت النهضة العربية، وتوقفت منذ إحراق المغول، مكتبة بغداد؟ ولماذا فشلت كل المحاولات التي جرت منذ مطلع القرن المنصرم وحتى يومنا هذا لكي تأخذ أمتنا مكانها اللائق بين الأمم، وتشارك بفعالية في معركة البناء والتقدم؟ وكيف يتأتى لنا أن نخرج من مأزق التخلف الذي يجثم بكلكله على رقابنا؟. أسئلة مهمة ومشروعة تلح على العقل وتثقل على القلب.. ويتصارع على تلقفها المفكرون والكتاب، والمهتمون بالشأن العام، ولكنها تبقى مستعصية على الفهم، وبالتالي على الإجابة. هل العلة في الفشل بنيوية، تحفر مساربها بقوة في ثقافتنا ومنظومة أفكارنا، أم أنها تكمن في ضعف تشكيلاتنا وهياكلنا الاجتماعية، بما أثر على مستوى النمو في أوطاننا، على كل الأصعدة. لقد حدثت تحولات كبرى، في منطقتنا، بفعل انتاج النفط بغزارة، في عدد من الأقطار العربية، والتصحيح الذي حدث في أسعاره، منذ النصف الأول للسبعينيات من القرن المنصرم. وربما أتت هذه الصدمة، ولم تكن البلدان العربية، مستعدة لها، بما أدى إلى الارتباك، وفقدان التوازن، واهتزاز منظوماتنا الفكرية والثقافية، والاجتماعية، وبالتالي تاهت في الزحمة بوصلتنا، وأفكارنا ورؤانا وصورة مستقبلنا. لكن النفط هو الذي أتاح لنا، الالتحاق السريع بهذا العالم، ومكننا من بناء أوطاننا، ورفع منسوب الوعي لدينا، وعزز من قدرات مواردنا البشرية. انتشرت المدارس والمستشفيات، ودخلت الكهرباء، ووسائل الاتصال، كل منزل، واستكملت بناء البنيات التحتية في عدد كبير، من الأقطار العربية. الجغرافيا العربية واقع الحال، أن لدينا اختلالا كبيرا في الجغرافيا العربية، ذلك أن جزءا كبيرا من خريطتنا السياسية العربية ليست من صنع أيدينا، وإنها حاصل قسمة، كما أشرنا، بين المنتصرين في الحرب العالمية الأولى، ولذلك فإنها جاءت معبرة عن إرادات أخرى، من خارج الحدود، لم تأخذ في الحسبان حقائق التاريخ أو الجغرافيا ولا مصالح أبناء المنطقة، وإذن فلا غرابة في أن تكون مشوهة. وقد خلقت هذه العلاقة المشوهة قضايا جديدة لم تكن واردة من قبل، كالنزاعات على الحدود، والخلل الاقتصادي، وتقسيم الوطن العربي إلى كيانات، تفتقر إلى الوحدة والتجانس، في بنياتها، دون أن يكون ذلك مرتبطاً بالإنتاج ولا بمستوى النمو العلمي والثقافي والقدرات البشرية، وتحسن الأداء الوظيفي. وكان أخطر ما في هذه القسمة، أن كل بلد أصبح لديه همومه ومشاكله الخاصة، وقضاياه الأمنية وأزماته الاقتصادية التي تثقل عليه، وتشكل موانع قوية تحول دون المشاركة الجماعية في مشروع النهضة العربية. لعل العودة إلى أس المشكلة، استيعاب العلاقة بين التاريخ، كمعبر عن ديناميكية الحركة الزمنية، وبين الجغرافيا كمعبر عن المكان وما يجري فيه من أحداث عاصفة وأفكار فوارة تتصارع تارة وتتلاقح تارة أخرى، ربما تسعفنا بمفاتيح أولية تساعدنا في رحلة البحث عن مخرج لتجاوز الأزمة الراهنة. ولم يكن لأمة أخرى، أن تكون محملة بثقل التاريخ، وجدل الجغرافيا، كما هو الحال، مع الأمة العربية. فبخلاف كثير من الأمم، الحديثة، التي تبحث لها عن تاريخ، يحتوى هذا الجزء من العالم، على أقدم الآثار، التي تذهب عميقا في التاريخ إلى أكثر من خمسة آلاف عام. وإذا كانت الأمم الحية، تستنهض موروثها الحضاري، عندما تحيق بها الأزمات والنكبات، فإن هذا الإرث العظيم، والواسع لم يجر استثماره مطلقا من قبلنا. وكان من نتائج ذلك أن تعطل قانون الفعل والاستجابة، بحسب مقولة المؤرخ البريطاني، أونولد توينبي. أما حين يتعلق الأمر بالجغرافيا، فيكفي القول، إن الأمة العربية، هي نقطة وصل بين قارات ثلاث: آسيا وأفريقيا وأوروبا. وهي القارات المعروفة بالقارات القديمة. ليس ذلك فحسب، بل انها هي وسيلة العبور إلى طريق الحرير، وفي العصر الذهبي لبريطانيا، الامبراطورية العظمى التي لا تغيب عنها الشمس، كان شرق السويس، هو الطريق إلى الهند، درة التاج البريطاني. عدا عن الممرات والمعابر الاستراتيجية: مضيق هرمز، ومضيق باب المندب، وقناة السويس، ومضيق جبل طارق. وحين تدفق النفظ بغزارة، انتقلت جاذبية السياسة الدولية، إلى هذا الجزء من العالم. صناعة التاريخ وإذن فالمعضلة، تكمن في اختلال العلاقة في منطقتنا، بين الجغرافيا والتاريخ. وكان العلماء العرب قد تنبهوا منذ وقت مبكر لأهمية العوامل الجغرافية في صناعة التاريخ. ومن ضمن العلماء العرب، الذين اهتموا بهذا الموضوع ابن المقفع، الذي أشار إلى أثر البيئة في تكوين اللغة العربية، وإلى دورها في تطوير طباع وسجايا العرب. ووافقه الفيلسوف الفارابي هذه الرؤية، فأرجع الخلق والشيم الطبيعية إلى أثر البيئة والموقع الجغرافي (والفلكي) وما يتصل بذلك من مميزات في الهواء والحياة وأنواع النبات والحيوان. وقد لاحظ المسعودي أهمية العوامل الجغرافية في التاريخ، فأشار إلى أن السمات الطبيعية والإمكانيات الفكرية تتأثر بالأوضاع الجغرافية والظروف المناخية، وأوضح أن مقومات الأمم في التاريخ تتأثر بثلاثة أمور هي شيمهم (طبيعتهم) وخلقهم الطبيعية وألسنتهم، وأعطى البيئة الجغرافية الدور الرئيسي مقارنة بالميزتين الأوليين. وجاءت نظرية العلامة ابن خلدون متفقة مع هذه الرؤية، حيث ترى وجود أكثر من عامل لتحديد أساس الأمة بضمنها أثر البيئة الطبيعية، وتتناول أثر هذه العوامل في تحديد نوع المعاش وألوان البشر وسماتهم وعوائدهم وأخلاقهم، وأن ذلك التأثير يمتد إلى الأحوال الدينية. لقد توصل العرب القدماء إلى وعي مبكر لأهمية الجغرافيا في توجيه الحركة التاريخية، لأنهم عاشوا في منطقة لعبت فيها البيئة والمناخ والموقع دورا حاسما في صناعة تاريخ هذا الجزء من العالم. فمنذ فجر التاريخ، كان لتلك العوامل الجغرافية أثر رئيسي في الدور البارز الذي لعبه أبناء هذه المنطقة في المشاركة ببناء الحضارات الإنسانية. بل لعلنا لا نبالغ إذا قلنا إنه بسبب من الجغرافيا، شهد هذا الجزء من العالم بداية السؤال عن كنه الوجود، وفيه تمكن الإنسان من قهر الطبيعة في كثير من حلقاتها، كما شهد قيام أول سلطة مركزية في التاريخ، ويأتي تفرد المنطقة باستقبال رسالات السماء، وبناء الأهرام وأبراج بابل، والتقدم في وسائل التحنيط، واكتشاف الحرف، إشارات واضحة على أهمية المكان. نوم عميق على أن أهمية الجغرافيا، التي جعلت من هذا الجزء من العالم مهدا وموطنا أول للحضارات، كانت ذاتها السبب في تكالب القوى الخارجية عليه، وفي بروز مشاكل اجتماعية وإثنية وسياسية فيه، أدت إلى تعطل دوره الحضاري. فمنذ سقوط بغداد، عاصمة العباسيين، عام 1258م، تعطل الدور الفاعل للعرب، وبقوا يغطون في نوم طويل تحت هيمنة التتار وسلطان الاستبداد العثماني. وفي بداية القرن الماضي، بدأوا يتململون، ويقومون بمحاولات جادة من أجل الانعتاق. وتعثرت ولا تزال، تلك المحاولات. وكان الوطن في كل تلك المحاولات محملا بثقل جغرافيته. لا نناقش الجغرافيا في هذه القراءة، بوصفها العلم الذي يدرس الاختلافات المناخية والتضاريسية فحسب، ولكن باعتبارها العلم الذي يهتم بدراسة شخصية الأقاليم. وباعتبارها أيضا رابطا بين العلوم الطبيعية والاجتماعية، ونتفق في ذلك مع رأي «إي. و. جلبرت» في أن علم الجغرافيا هو "فن التعرف على شخصيات الأقاليم ووصفها وتفسيرها". والتاريخ هنا ليس مجرد سجل لتدوين الحوادث وتقديم شروح وصفية لها فحسب، ولكنه حركة مستمرة. ولذلك فإن ما يعنينا هو وعي مشاهد المسرح التي تحققت وتطورت فيه الحادثة التاريخية ذاتية كانت، أو وافدة. لأن ذلك سيساعد على تحقق الوعي بدور جدلية الجغرافيا في تداعي حضارات وقيام أخرى جديدة على ركام الحضارات البائدة، وبالتالي في صنع وتوجيه حركة التاريخ العربي قديمه وحديثه. وذلك هو بالدقة ما يساعد في وعي الحاضر، وتقديم مقاربات أولية ربما تكون موجها ومرشدا، في محاولة الخروج من المأزق الراهن. ومن هنا فإن ما يهم هذا الحديث ليس هو التاريخ، فما يقدمه لن يتعدى الدروس والعبر، وإنما الجغرافيا في جدلها: جذبها وطردها، وحدتها وتنافرها. وبما أن الثبات والسكون نسبيان، إذ إن كل شيء في هذا الكون هو في حركة دائبة، ولأن الجدل هو علم قوانين الحركة، وجب أن يكون دليلا مساعدا على فهم علاقة الجغرافيا بصنع الحادثة التاريخية وتوجيهها، باعتبار ذلك جزءاً مهماً في محاولة تجذير الوعي والتوق للمشاركة في كشف القوانين التي تحكم ثنائية التقدم والتراجع، وبخاصة تلك التي كان لها دور رئيسي في سقوط حضارات وقيام أخرى جديدة. وبذلك نستطيع، من خلال القراءة المعمقة والوعي بقوانين حركة التاريخ، أن ننطلق من خلال التمكن من القبض على القواعد التي نستند عليها، والخطوط التي ينبغي أن نسير عليها، والعوامل المحركة والأدوات الضرورية، إلى تجاوز الأزمة الراهنة، والوثوب إلى صناعة المستقبل، وتحقيق التنمية والقضاء على التخلف والنهوض بالوطن وتحقيق تقدمه ونمائه.