بات واضحا في السنوات القليلة المنصرمة، وتحديدا في الفترة التي أعقبت احتلال العراق، أن حقبة عالمية جديدة قد بدأت، أهم معالمها انتهاء حقبة القطب الأوحد، والانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب، ليست قيادته حكرا على الولاياتالمتحدةالأمريكية، وتلك طبيعة الأشياء، والواقع هذا التحول في موازين القوة، هو من طبيعة الأشياء. لقد أدى تضعضع الامبراطورية السوفييتية، والتي أسهم الغزو السوفييتي لأفغانستان في انهاكها والقضاء على البقية الباقية منها، في بروز حالات تململ في الدول التي تدور في الفلك الشيوعي. وقد مثل سقوط حائط برلين في نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم، بداية النهاية للسقوط المدوي للاتحاد السوفييتي، وانهيار النظم الاشتراكية في أوروبا الشرقية. لقد كانت الأحادية القطبية، بالزعامة الأمريكية، استثناء في التاريخ الإنساني، ذلك لأن النظام الدولي لا يسير بالتوافق والرضا، بل يحكمه قانون المنفعة وتوازن القوى، صراع الإرادات. وتتشابك فيه كما تفترق المصالح بين عمالقة صنع القرار. وإذا، وسواء شئنا ذلك أم ابيناه، فإن العالم الآن يتوازن، ويعود إلى النمط الطبيعي الذي حكم التاريخ الإنساني منذ أعرق الحضارات، ولتنتهي حالة النشوز والانفصام، التي لحسن حظ البشرية، لم تتعد العقدين من الزمن، من تاريخ طويل تعدى آلاف السنين، منذ عرفت البشرية الاجتماع الإنساني، وأشادت المدن والحضارات والإمبراطوريات. الآن وقد أصبحت التعددية القطبية أمرا واقعا لا جدال حوله، يعترف به صقور الإدارة الأمريكية قبل حمائمها، مثل هنري كيسنجر وبريجنسكي وصامويل هانتنجتون، يصدمنا السؤال، ما الذي ينبغي على العرب فعله تجاه هذه التحولات في موازين القوى الدولية، والتي ستكشف الأيام القادمة أنها أكثر عمقا مما يظهر على السطح، ويترجم ذلك السعي الأمريكي المحموم للانسحاب من المنطقة المعروفة بالشرق الأوسط، بما في ذلك الانسحاب من أفغانستان، والتسليم لسياسات روسيا في الكثير من الملفات، ومن ضمنها الأزمة السورية، والحديث المستمر عن مخرج سلمي لهذه الأزمة، مخرج يؤكد مجددا، أمجاد روسيا القيصرية، في مياه البحر الأبيض المتوسط، ومضيق الدردنيل. وكان هذا الأسبوع، قد شهد انطلاق صندوق النقد الدولي الجديد، من منظومة البريكس، لينافس البنك التقليدي الذي تربع على عرش التسليف لعقود عديدة. وليكون مرآة أخرى، للتعبير عن التغيرات في موازين القوى الاقتصادية الدولية. وفي سياق آخر، تنشط منظومة شنغهاي، معبرة عن وجه آخر، للتحولات السياسية التي تجري في هذا الكون. واستخدام، الموقف العربي المطلوب، ليس تجريديا بل يعني بالدقة ما يضمن مصالح العرب وحقوقهم، ويؤمن سلامتهم ووحدة أراضيهم، ويصد عنهم أطماع الطامعين، ويحفظ مستقبل هذا الجيل والأجيال العربية القادمة، في ظل مرحلة صعبة تتصاعد فيها أنشطة التخريب والإرهاب في عدد لا يستهان به من البلدان العربية. يختلف الصراع الدولي الراهن، عن صراعات الحرب الباردة بخاصيتين: فهو صراع بين شرق وغرب أولا، وهو ثانيا صراع بين شمال وجنوب. فمنظومة البريكس، التي تمثل الكتلة الاقتصادية المتحدة، في مواجهة الاقتصادات الأمريكية والأوروبية، هي روسياوالصين والهند، والدول الثلاث تنتمي إلى الشرق في موقعها وفي ثقافاتها وانتماءاتها. الدولتان المتبقيتان، احداهما تحمل مسمى جنوب أفريقيا، بمعنى وقوعها في جنوب القارة السمراء، والأخرى البرازيل وتقع في أمريكاالجنوبية. الملفت للنظر أن معظم هذه الدول، كانت تنتمي حتى وقت قريب لمنظومة العالم الثالث. الصراع الدولي السابق، الذي ساد أثناء الحرب الباردة بين القطبين حمل شكلين: شكل صراع عقائدي بين الشيوعية والرأسمالية، وشكل صراع بين الأغنياء والفقراء، فهناك دول غنية متقدمة في الصناعة، هدفت إلى السطو على المواد الخام من الدول الفقيرة، وعطلت من نموها الاقتصادي، ومن التحاقها بعصر الصناعة. هكذا ساد العالم تقسيمان: تقسيم عقائدي يشق العالم أفقيا بين شرق وغرب، وتقسيم رأسي، يشق العالم، من الشمال حيث الأغنياء، ويشمل أمريكا وأوروبا والاتحاد السوفييتي، وإلى الجنوب حيث الفقر، يسود معظم بلدان ما جرى التعارف عليه ببلدان العالم الثالث، ويقال عنهم أيضا البلدان غير النامية. والتقسيم هذا لا يعني عدم وجود استثناءات، كما في حالة النمور الآسيوية، ولكنه يعني هنا التمركز. بمعنى أين يتمركز الأغنياء، وأين يتمركز الفقراء. ولأن أي صراع في العالم بحاجة إلى مؤسسات تعبر عنه وجدت لدينا مسميات مختلفة تعبر عن مكنون التقسيم. فالشرق والغرب يتصارعان عقائديا واقتصاديا وعسكريا، وفي نطاق كل صراع هناك مؤسسات تعبر عن مصالح كل فريق، لكنهما يلتقيان عند تعبير الدول الصناعية، التي تمثل قاسما مشتركا بينهم. في الجنوب هناك افتراق حاد عن الشمال، شكل منه كما أسلفنا، عالم ثالث، يضم عددا كبيرا من سكان القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، التي تحظى بلقب تعويضي، يجعل منها «دولا نامية»، بينما هي في واقعها غارقة في ظلام الفقر والبؤس. ورغم ما تحمله تعابير الاستقلال والسيادة، لدول هذا العالم الثالث، لكن دوله جميعها، ومن غير استثناء، انقسمت أثناء الحرب الباردة، في ولائها وتبعيتها، لواحد من الكتلتين المتنازعتين أفقيا. الصراع الجديد، مختلف جوهريا عن الصراع السابق. فرغم أن له صبغة ثقافية، يتخندق بعضه بسحر الشرق، ويتخندق الآخر بالإرث المسيحي، لكنه يخلو من أي صبغة عقائدية. فحتى الشيوعية الصينية، لم تعد بالوجه السابق، الذي ساد أثناء حكم ماوتسي تونج، فليست هناك دوغما، بل براغماتية مذهلة، جعلت من الصين تنينا عاتيا، يشق طريقه بقوة كاسحة، ليس لها نظير في التاريخ، في عالم الصناعة والمال. أما روسيا الاتحادية، فقد تخلت طواعية أو بقسر الضنك الاقتصادي، عن عقيدتها الماركسية، في تحول درامي مثير، أفقدها هيبتها وسطوتها، والدول التي تدور في فلكها، وأحالها إلى دولة من دول العالم الثالث، في قوتها الاقتصادية، إلى أن نهض بها قيصرها الجديد فلاديمير بوتين، في ظروف تحولات دولية صار مؤكدا، واختلال في موازين القوى السياسية والاقتصادية، تسير إلى جانبه ولمصلحته. والنتيجة أن التنافس الدولي الحالي، يقوم بين أنظمة تتبنى النهج الرأسمالي، وأنه ليس كما كان في السابق، تنافسا بين شيوعيين ورأسماليين. ذلك يعني أن التحالفات العربية مع الدول الكبرى، وفي أي اتجاه، ستكون سواء كانت مع الشرق أو الغرب، من أنظمة سياسية من نمط اقتصادي وسياسي واحد، والتنافس بينهما على المواد الخام، واقتسام الأسواق العالمية، أمر مشروع. والجانب الإيجابي فيه، أنه يتيح لنا الاختيار، بين أقطاب متماثلة، في أنماط حكمها واقتصاداتها وسياساتها. لكن ذلك ربما يضعنا كأمة عربية، تطمح لأن يكون لها مجالها الحيوي في هذا العالم الفوار، في حيرة كبيرة. أين نتخندق؟ وأين تكمن مصلحتنا؟ أهي في الشرق أم الغرب؟ وهل يمكن أن نكون كتلة متحالفة، فيما بيننا، ثم نتجه إلى العالم باستراتيجية واحدة شاملة وواضحة المعالم؟!. لقد كان الاختيار سهلا، فيما مضى، أثناء الحرب الباردة، لأن له امتداداته الايدلوجية والسياسية والاقتصادية. فمن أراد هيمنة مباشرة على الأسواق، وإدارة الإنتاج، انتهج سياسة مؤيدة للسوفييت، وكان لذلك تأثيراته المباشرة، على الاستراتيجيات العسكرية، ونوع التسليح. والحال هذا كان صحيحا على الدول التي انتهجت الطريق الرأسمالي. كان الاختيار سهلا، ولكن النتائج خطيرة، شقت الوطن العربي إلى معسكرين: معسكر مؤيد للشرق وآخر مؤيد للغرب، ودخلنا في مواجهات وصراعات، أبعدتنا عن مواقع أقدامنا، وخسرنا الكثير بسبب تلك الصراعات ليس أقلها هزيمتنا في حرب يونيو 1967، وسيطرة الكيان الصهيوني الغاصب على أجزاء من بلدان عربية ثلاثة، إضافة إلى قضم البقية الباقية من فلسطين، مما أبعد حلمنا في تحريرها، وتحقيق التكامل بين العرب، بمسافات فلكية. لحسن طالعنا في هذه الحقبة، أننا لسنا مضطرين للدخول في صراعات بسبب تخندقنا مع الشرق والغرب، فجميعهم ينهل من إنجيل آدم سميث المعروف بثروة الشعوب. وليس من صالحنا أن ننساق مع صراع المصالح الذي يحكم العلاقات فيما بينهم. فتنافسهم سيكون علينا، وليس لنا. المنطقي أن تكون لنا علاقات متكافئة، مع أقطاب الصراع الدولي، من غير تمييز، إلا ما يخدم مصالح وتنمية بلداننا ويحقق الخير والأمن لنا. وكلما تعددت وتنوعت هذه العلاقات، توسعت دائرة الاختيار، وأصبحنا أحرارا، وغير مقيدين بالخضوع لإملاءات هذا الفريق أو ذاك. المهم أن لا تتسبب هذه الاختيارات في افتراقنا، وفي إعادة منطق داحس والغبراء في العلاقات العربية- العربية. وكان وعي القيادة السعودية مبكرا بهذه الحقيقة. وقد حرض هذا الوعي على إقامة علاقات متينة مع الصينوروسيا، والاحتفاظ بالعلاقات التقليدية القديمة. وليست زيارة ولي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان أخيرا، إلى روسيا وفرنسا، وتوقيع اتفاقيات ضخمة مع البلدين، سوى ترجمة لهذا الوعي. وليس بعيدا أن تكون الصين والهند، على قائمة الاهتمامات السعودية. واقع الحال، أن الانقسام بين البلدان العربية، في علاقاتها مع الغرب أو الشرق، هو رحمة لنا جميعا، إذ أن الخطورة تكمن في وضع البيض كله في سلة واحدة. وسيكون مجديا أن يكون ذلك جزءا من استراتيجية عربية موحدة، إن أمكن ذلك، وليس اختيارا محسوبا على أساس المصالح الفئوية والقطرية. والموضوع هذا جوهري ومهم لرسم علاقتنا الدولية المستقبلية، ويبقى بحاجة إلى تأصيل وتحليل، سيكون من المفيد متابعته، بعد أن ينجلي الغبار، عن بعض ما يجري الآن من تفاعلات وتحولات. لكن المهم هو أن يتم ذلك من منظور استراتيجية عربية واحدة. فليس هناك مكان في ظل التنافس الاقتصادي المستعر بين الكبار، سوى التكتلات الكبرى بأبعادها الشاملة.