ترتفع في الأمَّة العربيَّة نداءات بإعادة كتابة تاريخها، وأخرى باستقرائه لاستخلاص دروسه وعبره؛ نداءات تنعكس ظلالاً واستفهاماتٍ على المختصِّين أكاديميّاً من المؤرِّخين بأنَّهم أو معظمهم لم يحسنوا هاتين المهارتين، بله أن يحسنهما غيرهم من عموم المثقَّفين ممَّن يقرؤون التاريخ ولا يستقرئونه؛ ممَّا جعل حضارة العرب وثقافتهم تتقوقع في عصورهم الأولى التي انطلقوا فيها بناةً لحضارة إنسانيَّة أسَّستْ لانطلاقات غيرهم ممَّن وصلوا ذلك بما أضافوه في البناء الحضاري بالحضارة المعاصرة، هذا القصور العربيُّ لم يقتصر على علم التاريخ فحسب، بل امتدَّ إلى علوم إنسانيَّة أخرى ما زالت بحركتها العلميَّة تائهة داخل دائرة الادِّعاء الثقافي لا أكثر دون أن تجد لها مخرجاً منها إلى فضاءات التطبيقات العمليَّة كما خرجت تلك العلوم في وقت مبكِّرٍ جدّاً لدى أمم أخرى تصنَّف الآن بأنَّها العالم المتقدِّم. ففي دائرة الثقافة العربيَّة المقفلة علم آخر لا تقلُّ أهميَّته عن علم التاريخ بل هو علم يسير معه في بعض مساراته، فبالرغم من أنَّ الجغرافيا خطت خطوات تطبيقيَّة أوسع في مجالها وفي مساراتها الخاصَّة بها إلاَّ أنَّها ما زالت مكبَّلة بالنظرة العربيَّة للعلوم الإنسانيَّة، ممَّا جعلها تقصر عن أدوارها وأدواتها التطبيقيَّة في الحضارة المعاصرة، ففي حين أنَّها تصنَّف في معظم جامعات الغرب ضمن العلوم التطبيقيَّة، فإنَّها ما زالت تصنَّف عربيّاً ضمن العلوم النظريَّة، وتصنيفها العربيُّ هذا انعكس سلباً على توظيفها في جوانب من نهضتهم التي يحاولونها منذ أكثر من قرن فتتعثَّر بمشكلات التطبيق فتكبر وتتعقَّد وتتداخل لتعيدها إلى نقطة البدء بل وإلى ما قبلها. لم تتجاوز النظرة العربيَّة للجغرافيا الفهمَ السطحيَّ العام المحدود بثقافة مسمَّيات الدول وعواصمها وحدودها ومساحاتها وأعداد سكَّانها وغيرها ممَّا تتناوله الجغرافيا الإقليميَّة أقدم فروعها نشأة وأوسعها ظهورا، هذا على الرغم من ظهور فروع جغرافيَّة أخرى أحدث وأكثر مساساً بجوانب التنمية، وحقَّق فيها الجغرافيُّون العرب من الدراسات التطبيقيَّة إنجازات كبيرة ومثمرة، ولكنَّها بقيت حبيسة المكتبات الجغرافيَّة في أقسام الجغرافيا ولم تصل إلى مخطِّطي التنمية وصولاً عمليّاً فاعلاً، فما زالت المشروعات التنمويَّة العربيَّة يتوقَّف دور الجغرافيا فيها على كتابة مقدِّمات جغرافيَّة كمداخل للأقاليم أو للمناطق والقطاعات التنمويَّة لا أكثر، ولم يسند للجغرافيِّين الدور الاستشاري أو التخطيطي الفاعل في تلك المشروعات التنمويَّة. لذلك فتعثُّر معظم المشروعات التنمويَّة أو تدنِّي مؤشِّرات تحقيقها لأهداف خططها يعود في معظمه إلى جوانب جغرافيَّة لم تؤخذ باعتبارها التخطيطي. فالتخطيط للتنمية يتطلَّب تضافر تخصُّصات عديدة تتفاعل فيما بينها تفاعلاً علميّاً لتنتج رؤى تنمويَّة تترجم على الأرض بمشروعات تتصل بالإنسان ونشاطاته، وبالأرض ومواردها، فالأرض والإنسان والعلاقة بينهما من أنشطةٍ وموارد هي مسرح الجغرافيا وموضوعات دراساتها، وبالتالي فللجغرافيا دور فاعل في التخطيط الاستراتيجي لكلِّ مجالات التنمية التي تمسُّ الإنسان وتقوم على الأرض؛ لذلك ففرق التخطيط التنموي تحتاج إلى دراسات جغرافيَّة سابقة لخطط التنمية وأخرى مرافقة وثالثة لاحقة لها؛ هذا ما يجعل الجغرافيِّين ذوي أدوار فاعلة لاستثمارها في الخطط التنمويَّة، فالتقسيمات الإداريَّة لدولة ما إلى مناطق فمحافظات فمراكز تتطلب إضافة إلى الخبرات الإداريَّة والأمنية والاجتماعيَّة والاقتصاديَّة وغيرها خبرات الجغرافيين وفق توجيه الجغرافيا، كما أنَّ توزيع التنمية جغرافيّاً على تقسيماتها الإداريَّة لا يتأتَّى وفق عوامل نجاحاتها وترابطها فيها باجتهادات تستبعد الجغرافيِّين والجغرافيا من ذلك. فلدى الجغرافيا والجغرافيِّين مناهج وأدوات ودراسات تطبيقيَّة في نشأة المستوطنات العمرانيَّة قرى ومدناً تتعلَّق بمواضعها ومواقعها واستخدامات الأرض فيها تسهم في تلافي معظم معوِّقات التنمية وتقدِّم حلولاً لمشكلاتها، بل توصَّل الجغرافيُّون في ضوء دراساتهم التطبيقيَّة إلى نظريَّات وقوانين تحكم نشأتها العمرانيَّة ونموِّها وظهور المدن من بينها، فالظاهرات البشريَّة عموماً تخضع في ظهورها لأنظمة وقوانين تتحكَّم في ذلك وتنظِّمه، ويستطيع الإنسان في ضوء معرفته بتلك الأنظمة والقوانين أن يعدِّلها أو يوجِّهها، ويتمكَّن الجغرافيُّ في ضوء خبراته في التخطيط الإقليميِّ من اقتراح نظام لظهور المدن في أجيال متعاقبة موزَّعة في أقاليمها توزيعاً مدروساً يخدم توجُّهات التنمية الريفيَّة بدلاً من تركها تظهر على صفحة الإقليم وتتوزَّع عشوائيّا. بل إنَّ توزيع الخدمات وعوامل التنمية الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة وأدواتها داخل المدن يتطلَّب نظرة جغرافيَّة تأخذ باعتبارها قوانين وعوامل جغرافيَّة، فتوزيع مدارسها مثلاً ومراكزها الصحيَّة أيضاً في ضوء ذلك سيتلافى معظم مشكلاتها التوزيعيَّة، فالجغرافي قادر على استقراء المستقبل من حيث شيخوخة الحي السكني، ويتعرَّف على اتِّجاهات الهجرة الداخليَّة بين أحياء المدن والهجرة الريفيَّة إليها، وتعدُّ طبوغرافيَّة الأرض جزءاً من اهتمامات الجغرافيا يمكنها أن تتلافى تعدِّيات التخطيط العمراني على مجاري الأودية والشعاب والقطاعات المنخفضة من منظور عقاريٍّ فقط، والدراسات الجغرافيَّة في توجيه المساكن والشوارع الرئيسة بما يتلافى مشكلات هبوب الرياح وشروق الشمس وغروبها ذات تأثير إيجابيّ لا يمكن إغفاله، ومواضع المصانع ومواقعها وخاصَّة المؤثِّرة سلبيّاً بملوثاتها على البيئة الحضريَّة هي ممَّا يدخل في اهتمامات الجغرافيِّين وتوصَّلت دراساتهم إلى حلول آنيَّة ومستقبليَّة لها. فمتى سيحين الوقت لتستفيد الجهات التنمويَّة في البنية التحتيَّة وفي توزيع الخدمات الحضريَّة والريفيَّة وفي استثمار الموارد الطبيعيَّة في بلادنا من خبرات الجغرافيِّين ومن دراساتهم التطبيقيَّة؟، ومتى ستدرك الحقيقة القائلة: بأنَّ الجغرافيا توجِّه التاريخ في أحداثه ووقائعه، والسياسة في صراعاتها واتَّفاقيَّاتها، والتنمية في تخطيطها وفي حلول مشكلاتها، فاختيار مواضع المدن ومواقعها لتكون ضمن حركة التاريخ، والتنافس على الموارد الطبيعيَّة وما يتَّصل بها من أحداث ووقائع وسياسة موضوعات جغرافيَّة، فالجغرافيا ذات مساس علميٍّ وفكريٍّ بكلِّ جوانب الحياة، وهي علم ذو مناهج وأدوات أوصلته إلى حقائق ونظريَّات وقوانين تتحكَّم في مجالات حيويَّة، وتطرح الحلول لصعوباتها ومشكلاتها ومعوِّقاتها، وهذا يتطلَّب نظرة جادَّة تجعلها علماً تطبيقيّاً فاعلاً وتخرجها من دائرة العلوم النظريَّة بمنظورها العربي.